في المجتمعات التي مزقتها الحروب، لا يكفي وقف إطلاق النار.
فما تدمّره الحرب في داخل النفوس من تصدّع الثقة بين الأفراد والجهات، قد يستمر في تسميم الحياة لسنوات بعد توقف الرصاص.
وفي سوريا الآن يعيش المجتمع حالة دقيقة من أزمة ثقة مزمنة، لا تجاه العدو فحسب، بل داخل الصف الواحد، وبين الجهات التي كانت تُفترض حليفة أو صديقة.
1. أزمة الثقة: جرح لا يُرى
تشير “نظرية العدالة الإدراكية” (Lerner & Miller, 1978) في علم النفس الاجتماعي إلى أن الإنسان يحتاج أن يشعر بأن النظام المحيط به عادل ومتسق، وإلا شعر بالخذلان، وفقد قدرته على الإيمان بالمجتمع أو بالمستقبل.
وهذا ما تعانيه اليوم قطاعات واسعة من السوريين، بعد تكرار خيبات الأمل في الائتلافات السياسية، والكتل الثورية، والهيئات المحلية، التي لطالما رُوّج لها كرموز تمثل الشعب، لكنها فشلت – في أحيان كثيرة – في أن تكون عند مستوى الصدق والمسؤولية.
هذه الصدمات الوجدانية تولّد شعورًا بالخيانة، وتجعل المواطن العادي ينسحب من المجال العام، ويعجز عن منح ثقته لأي جهة.
2. الانسحاب النفسي: دفاع أم هزيمة؟
وفقًا لنظرية “الاعتماد المتبادل” (Interdependence Theory – Thibaut & Kelley, 1959)، فإن التعاون داخل المجتمعات يعتمد على “ثقة متبادلة” بأن الآخر لن يستغلّك أو يخذلك.
وحين تُكسر هذه الثقة، تحدث الانعزالية، وتفشل أي مبادرات جماعية، مهما كانت أهدافها نبيلة. بل يظهر سلوك يُعرف في علم النفس الاجتماعي بـ”اللامبالاة الدفاعية”، حيث يتظاهر الناس بعدم الاهتمام كآلية لحماية أنفسهم من تكرار الخذلان.
3. الهدي الإسلامي: جبر الخواطر قبل جبر الجبهات
قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله، ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم.”
وفي حديث آخر: “لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.”
المجتمع الإسلامي في بنيته الأصلية يقوم على الثقة، والنصيحة، والتثبت. قال تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قومًا بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} [الحجرات: 6]
وهذه الآية لا تعالج فقط “الشائعة”، بل تبني أخلاقيات عقل جمعي متماسك، يوازن بين الحذر وسوء الظن، وبين العدل والانفعال.
4. كيف نعيد ترميم الثقة داخل المجتمع السوري؟
الوضوح والمكاشفة: لا يمكن إعادة بناء الثقة على الغموض أو تبرير التقلبات السياسية بلا اعتراف.
مأسسة الصدق: إنشاء هيئات رقابية شعبية، وصحافة مستقلة، يعيد للمواطن شعور العدالة والمصداقية.
رموز جامعة جديدة: تجاوز الأسماء المستهلكة، وبناء ثقة برموز نزيهة، قريبة من الناس، وذات سجل موثوق.
الاعتراف بالأخطاء الجماعية: الاعتذار ليس ضعفًا. بل أول خطوة في إصلاح نفسي جماعي.
الخذلان يقتل الحماسة أكثر مما تفعل الرصاصات.
ولذلك كان من حكمة النبي عليه افضل السلام قوله:
“أخوك من صدقك، لا من صدّقك.”
د. دعوة الأحدب – الباحثة في الشؤون الاجتماعية والنفسية