تمكين الشباب في سوريا: رافعة أساسية لإعادة البناء والتنمية

تمثّل فئة الشباب الركيزة الأساسية لأي مشروع تنموي، نظرًا لما تمتلكه من طاقات حيوية وقدرات ابتكارية ورغبة في التغيير وصنع المستقبل. وفي السياق السوري، تكتسب قضية تمكين الشباب أهمية مضاعفة، إذ تأتي في ظل عقد من التحولات الجذرية التي تركت آثاراً عميقة على البنية الاجتماعية والاقتصادية، وولّدت تحديات معقدة تتعلق بالهجرة، والبطالة، وتراجع فرص التعليم، وضعف البنى المؤسسية. ومع ذلك، فإنَّ الاستثمار في طاقات الشباب السوري يبقى أحد أهم المداخل اللازمة لإعادة البناء والتنمية، بما يحمله من إمكانيات لإحياء الاقتصاد المحلي، وتعزيز النسيج الاجتماعي، وبناء مجتمع أكثر صلابة وقدرة على تجاوز الأزمات المستقبلية.

 

أولاً: أهمية فئة الشباب في التنمية الوطنية

 

يمثل الشباب في سوريا نسبة كبيرة من الهرم السكاني، مما يجعلهم قوة ديموغرافية مؤثرة يمكن أن تتحول إلى ميزة تنموية إذا ما جرى استثمارها بطريقة صحيحة، وتؤكد الأدبيات التنموية أنّ الدول التي استطاعت تسريع معدلات نموها الاقتصادي، وتحقيق تحول اجتماعي مستدام، هي الدول التي وضعت الشباب في صلب سياساتها العامة، فالشباب يمتلكون قابلية عالية لتبني التكنولوجيا الحديثة، والمشاركة في سوق العمل، وتطوير أنماط جديدة من الإنتاج والإبداع. وبالتالي، فإنّ تجاهل دورهم أو تهميشهم لا يشكل خسارة فردية فحسب، بل خسارة وطنية تؤثر على مستقبل المجتمع بأكمله.

 

ثانياً: التحديات التي تواجه الشباب السوري

 

مرّ الشباب السوري بتجارب خلّفت آثارًا اقتصادية واجتماعية عميقة، ويمكن تلخيص أبرز التحديات التي تقف في وجه تمكينهم بما يلي:

1. ارتفاع معدلات البطالة: تُعد البطالة إحدى أبرز مشكلات الشباب السوري، نتيجة تراجع النشاط الاقتصادي في مختلف القطاعات، وضعف الاستثمارات، وانكماش فرص العمل الرسمية، إضافة إلى غياب بيئة اقتصادية جاذبة لريادة الأعمال.

2. الهجرة وفقدان رأس المال البشري: أدت ظروف الأزمة إلى هجرة واسعة للشباب، خصوصاً المتعلمين وأصحاب المهارات العالية، ما أدى إلى استنزاف الكفاءات الوطنية وانخفاض القوة العاملة المؤهلة داخل البلاد.

3. تراجع جودة التعليم: تضرر النظام التعليمي على مختلف مستوياته من خلال انقطاع الطلاب عن التعليم، وغياب البنى التحتية اللازمة، وضعف الموارد البشرية المؤهلة، ما انعكس بشكل مباشر على مهارات الشباب وفرصهم في المنافسة في سوق العمل.

4. ضعف المشاركة المجتمعية والسياسية: تعاني فئة الشباب من محدودية المساحات المتاحة للمشاركة في صنع القرار، سواء على المستوى المحلي أو المؤسسي، وهو ما يضعف دورهم في عملية التغيير الاجتماعي والتنمية.

5. التحديات النفسية والاجتماعية: أثّرت الظروف المعيشية المتقلبة، وفقدان الاستقرار، والتجارب الصعبة التي مرّ بها الكثيرون، على الصحة النفسية للشباب، مما انعكس على قدرتهم على المشاركة والإنتاج.

6. التوظيف وفق الواسطة: أحد أبرز عزوف الشباب عن المشاركة، هو التوظيف الذي يحصل في الواقع السوري بما يسمى (التزكية)، مما أدى هذا الشيء إلى فتور كبير في همة الشباب، ونزع الشغف منهم بالمشاركة والتطوير.

 

ثالثاً: مفهوم تمكين الشباب

 

ينظر إلى تمكين الشباب باعتباره عملية متكاملة تهدف إلى تعزيز قدراتهم الفردية والجماعية، وإزالة العوائق التي تحدّ من مشاركتهم الفعالة في المجتمع، ويتضمن التمكين ثلاثة أبعاد أهمها:

1. التمكين الاقتصادي: من خلال توفير فرص عمل مناسبة، ودعم ريادة الأعمال، وتحديث نظم التدريب المهني، وتطوير اقتصاد قادر على استيعاب الطاقات الشابة.

2. التمكين الاجتماعي: عبر تعزيز دور الشباب في المجتمع، وبناء منصات للحوار، وتشجيع العمل التطوعي، وتوفير برامج دعم نفسي واجتماعي تعزز من قدرتهم على التكيف والاندماج، والقيام بالمؤتمرات الشبابية التي تعزز أهمية الشباب بالعمل.

3. التمكين المعرفي والتعليمي: من خلال تحسين جودة التعليم، وتوسيع نطاق التدريب التخصصي والمهني، وتوفير فرص الوصول إلى التكنولوجيا والمعلومات، وفتح مراكز تدريب لكافة الاختصاصات.

 

رابعاً: المبادرات والجهود المبذولة لتمكين الشباب في سوريا

 

في السنوات الأخيرة، قبل سقوط النظام المجرم، كان الشباب يعيش حالة من قلة الدعم المادي والمعنوي، مما أدى إلى التقليل من مشاركته، لكن رغم ذلك تم تنفيذ عدد من البرامج والمبادرات، سواء من مؤسسات محلية أو منظمات دولية، تستهدف دعم قدرات الشباب السوري:

1. برامج التدريب المهني والتقني: ركزت عدة مشاريع على تدريب الشباب في مجالات مهنية تتناسب مع احتياجات سوق العمل، مثل الطاقة المتجددة، البرمجة، والصناعات الصغيرة والحرفية.

2. دعم ريادة الأعمال: انتشرت مبادرات لتشجيع تأسيس المشاريع الناشئة، من خلال توفير حاضنات أعمال، وبرامج تدريب على مهارات إدارة المشاريع، وتمويل صغير يساعد الشباب على بدء مشاريعهم الخاصة.

3. برامج التعليم غير الرسمي: تهدف إلى تعويض الانقطاع الدراسي، وتزويد الشباب بمهارات حياتية، ومنحهم أدوات للاندماج في بيئة العمل.

4. المبادرات المجتمعية: تشجع العديد من المنظمات الشباب على الانخراط في نشاطات تطوعية وخدمية داخل مجتمعاتهم، بما يسهم في بناء روح المشاركة والانتماء، ويعزز الثقة بالنفس.

 

خامساً: دور تمكين الشباب في إعادة البناء والتنمية

 

إن تمكين الشباب في السياق السوري لا يعد خياراً تنموياً فحسب، بل ضرورة استراتيجية لإعادة البناء، فالشباب قادرون على الإسهام في عدة مجالات رئيسية:

1. إعادة إحياء الاقتصاد المحلي: من خلال المبادرات الريادية والمشاريع الصغيرة، وتطوير الابتكار والإنتاج المحلي، يمكن أن يعزز الشباب الدور الاقتصادي للمجتمعات في مختلف المحافظات.

2. تنشيط سوق العمل: تدريب الشباب وتأهيلهم يسهم في توفير قوى عاملة مؤهلة قادرة على قيادة عملية إعادة الإعمار وتطوير القطاعات الإنتاجية.

3. تعزيز التماسك الاجتماعي: مشاركة الشباب في الأنشطة المجتمعية توفّر أرضية للتفاعل الإيجابي، وتعيد بناء الثقة بين فئات المجتمع.

4. تطوير التكنولوجيا والتحول الرقمي: يمتلك الشباب قدرات كبيرة على التفاعل مع التكنولوجيا الحديثة، وهو ما يجعلهم عناصر أساسية في أي مشروع للتحول الرقمي داخل سوريا.

 

سادساً: مقترحات لتعزيز تمكين الشباب

 

لضمان تحويل الشباب إلى قوة بنّاءة فاعلة في المستقبل السوري، يمكن اقتراح مجموعة من السياسات والإجراءات:

1. وضع استراتيجية وطنية لتمكين الشباب تحدد الأولويات وتنسّق بين الجهات الحكومية وغير الحكومية.

2. تعزيز التعليم الفني والمهني وربطه بسوق العمل الفعلي، لضمان تلبية احتياجات القطاعات الاقتصادية.

3. إيجاد بيئة تشريعية داعمة لريادة الأعمال عبر تبسيط الإجراءات، وتقديم حوافز للمشاريع الصغيرة، وتأمين مصادر تمويل مناسبة.

4. إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي موسعة لتحسين الصحة النفسية، خاصة للشباب المتأثرين بالأزمات.

5. زيادة مشاركة الشباب في صنع القرار من خلال المجالس المحلية والهيئات المدنية والأنشطة السياسية السلمية.

6. توسيع الوصول إلى التكنولوجيا وتوفير منصات تعليم رقمي مجانية أو منخفضة التكلفة.

 

في الختام:

 

تمكين الشباب في سوريا ليس مجرد عملية تنموية، بل مشروع مجتمعي شامل وشرط أساسي لبناء مستقبل مستقر ومزدهر. فالشباب السوري يمتلك من الطاقات والإمكانات ما يؤهله ليكون شريكاً أساسياً في إعادة البناء، إذا ما توافرت له بيئة داعمة تزيل الحواجز وتعزز قدراته وتمنحه الفرصة الفعلية للمشاركة. ومن هنا، فإنّ الاستثمار في الشباب هو استثمار في سوريا نفسها، وهو الطريق الأكثر فعالية لإطلاق مرحلة جديدة من التنمية ترتكز على المعرفة والابتكار والعدالة الاجتماعية.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
بكين ودمشق تلتقيان اليوم عند نقطة تحوّل حاسمة: الصين تبحث عن نفوذ آمن في الشرق الأوسط، وسوريا الجديدة تفتح أبوابها…

القائمة