المهام التشريعية والدعوية لمجلس الشعب السوري بعد التحرير: نحو إصلاح وتجديد ديني يرسخ المشروعية 

المقدمة:

 

تواجه سوريا ما بعد التحرير مرحلة تأسيسية حاسمة تتجاوز البنى السياسية والإدارية إلى إعادة بناء المرجعية الفكرية والتشريعية للدولة، ويغدو مجلس الشعب ـ بوصفه المؤسسة التمثيلية العليا ـ مطالباً بأداء دور مزدوج: تشريعي إصلاحي من جهة، ودعوي توجيهي من جهة أخرى، يتكامل فيه صنع القوانين مع بناء الوعي الديني والاجتماعي.

 

ينطلق هذا البحث من فرضية أن استقرار النظام التشريعي والسياسي في سوريا المقبلة رهين بتجديد الخطاب الديني ومواءمته مع روح التحرر والنهضة، وأن مجلس الشعب سيكون المحور في هذا المسار.

 

أولاً: الإطار المفاهيمي لوظيفة المجلس بعد التحرير

 

التحرر في جوهره ليس مجرد تبدّل في البنية السياسية أو الإدارة العامة، بل هو انبعاث لروح الأمة واستعادة لمرجعيتها القيمية، فبعد زوال الاستبداد تبدأ مرحلة تؤسس فيها الدولة لنظام أخلاقي وتشريعي جديد يقوم على التزكية والعدل، ويستمد شرعيته من الوحي بدل الهيمنة الفردية أو المصلحة الضيقة. إنها لحظة بناء الوعي الدستوري على أساسٍ من الشورى والمساواة والكرامة، حيث تُعاد صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع على ضوء مقاصد الشريعة ومبدأ الأمانة في الحكم.

 

 

ويأتي مجلس الشعب في هذا السياق بوصفه الأداة التي تُترجم هذا الوعي إلى قوانين وسياسات، فوظيفته لا تنحصر في سن التشريعات وإقرار النصوص، بل في ربطها بالمقاصد العليا للشريعة التي توازن بين المصلحة العامة والضبط الأخلاقي. وبهذا يصبح المجلس حارساً لمعنى الشرعية في وجدان الأمة، لا مجرد سلطة قانونية شكلية، إذ يستمد سلطته من الجمع بين العقل المؤسسي والإلهام الشرعي ليكون التعبير الأمثل عن إرادة الأمة في إقامة العدل وصيانة الدين.

 

 

ثانياً: المهام المطلوبة في مجال الإصلاح الديني

 

مراجعة البنية المؤسسية للعمل الشرعي:

يبدأ الإصلاح الديني بعد التحرير بمراجعة هيكل المؤسسات التي تضبط العمل الشرعي في الدولة، مثل وزارة الأوقاف والمجالس الفقهية، لتحريرها من التوجيه السياسي المباشر، بما يعيد لها دورها العلمي والدعوي الأصيل. هذا الاستقلال يعني أن تصبح مرجعيتها نابعة من المقاصد الشرعية العليا، لا من الإملاءات الإدارية أو التوازنات الحزبية، بحيث تظل السياسة في خدمة الدين لا العكس.

 

تحقيق التوازن بين الثابت والمتغير:

يجب ترسيخ توازن دقيق بين الثوابت العقدية والأحكام القطعية التي تشكل أساس الهوية، والمتغيرات التي تتيح الاجتهاد والتجديد في فهم النصوص وتنزيلها على الواقع. يمكن ذلك من خلال برامج تقويم علمي للخطاب الشرعي تعيد بناءه على منهج يجمع بين صفاء النص وانفتاح العقل، ويوازن بين الالتزام القطعي والتنوير المنهجي، ليظل الدين مرجعًا حيًا دون جمود أو تفلت.

 

تشريعات لحماية الهوية الإسلامية:

من الضروري إقرار تشريعات تحمي الهوية الإسلامية في الفضاء العام، وتمنع انتشار الخطابات التضليلية، أو التبشيرية، أو المتطرفة التي تستغل الفراغ الديني. هذه التشريعات لا تقيد حرية التعبير، بل تصونها من الانحراف وتؤكد وحدة الهوية الحضارية للأمة، بما يدعم بناء مستقبل قائم على الوعي والإيمان.

 

 

ثالثاً: تطوير الخطاب الدعوي بعد التحرير

 

إعداد ميثاق دعوي وطني:

  • يمثل خطوة تأسيسية لتنظيم الخطاب الديني وضبط مساره بعد التحرير.

 

  • يوضع لتحديد أخلاقيات الدعوة وضوابطها في الإعلام والمدارس والمنابر.

 

  • يضمن أن يقوم الخطاب الديني على العلم والاعتدال وليس العاطفة والانفعال.

 

  • يعمل كعهد وطني بين العلماء والدعاة والمجتمع، يحفظ وحدة الكلمة ويمنع التوظيف الحزبي أو التحريض.

 

إعادة بناء مؤسسات الدعوة:

 

  • تتطلب رؤية علمية تربط الخطاب الديني بالسياق التربوي والاجتماعي.

 

  • تهدف إلى ربط الدعوة بالتزكية الأخلاقية وتنمية الوعي العام.

 

  • تركز على إعداد دعاة مهرة في التربية قبل الإقناع، وإقامة مؤسسات تتعامل مع الخطاب كوسيلة لإصلاح الإنسان لا للجدل أو الصراع.

 

  • تشمل إنشاء مراكز بحث وتكوين دعوي تعتمد المناهج العلمية لإعادة الدور الإصلاحي للدعوة.

 

تمكين الدعاة والعلماء:

 

  • إنشاء هيئة مستقلة تُنتخب بحرية وترتبط بمجلس الشعب لمتابعة التوجيه العام.

 

  • مراقبة الأداء الدعوي والتكوين العلمي لضمان وحدة المنهج ورفع المستوى العلمي والخلقي.

 

  • حماية المؤسسات الدعوية من الانحراف والتسييس.

 

  • تعزيز دور العلماء كمرجعية شعبية تمنح الشرعية الأخلاقية والقيمية للمسار العام في الدولة والمجتمع.

 

 

رابعاً: دور المجلس في نشر الدعوة الإسلامية

 

تحويل الدعوة من الجهد الفردي إلى الجهد المؤسسي والمنظم:

 

  • تشريعات تصدر عن مجلس الشعب تمنح الجمعيات والمؤسسات الدعوية حرية العمل في بيئة قانونية آمنة.

 

  • تمكين المؤسسات الدعوية من أداء رسالتها في الإرشاد والتبليغ وفق ضوابط شرعية واضحة، مع موارد واستقلال واعتراف قانوني.

 

وضع استراتيجية وطنية لنشر الدعوة:

 

  • تركيز الجهود على المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة النظام السابق.

 

  • اعتماد رؤية جامعة تستند إلى الاعتدال والوحدة، تحت إشراف لجنة برلمانية مختصة بالشؤون الدينية.

 

  • ضمان توحيد الخطاب الإسلامي، ضبط المنهج، وغرس قيم الرحمة والتعايش والانتماء للأمة الواحدة.

 

  • تحقيق التنسيق بين المؤسسات الدعوية والهيئات التشريعية لتجنب الازدواجية أو التناقض في التوجه.

 

ربط مشروع الدعوة بمشروع النهضة الاجتماعية:

 

  • تحويل الخطاب الديني من مجرد مواعظ إلى مشروع وعي يبني الإنسان المنتج ويزكي ضميره.

 

  • نشر قيم العمل والإخلاص والعدالة والإبداع، وجعل الدين مصدر دافع للتحضر والبناء الأخلاقي والحضاري.

 

  • توحيد الدعوة والنهضة في هدف واحد: بناء مجتمع يؤمن بالله ويعمر الأرض بالعدل والإحسان.

 

 

خامساً: تحقيق المشروعية في القوانين الصادرة عن المجلس

 

1- اعتماد المرجعية الفقهية المقاصدية في التشريع:

 

  • مراجعة مشاريع القوانين وفق مقاصد الشريعة:

 

  • تخضع كل التشريعات لميزان الشريعة ومقاصدها الكبرى: حفظ الدين، النفس، العقل، النسل، والمال.

 

  • يضمن ذلك أن تكون القوانين معبّرة عن روح الدين ومحققة للصالح العام، محافظة على وحدة المجتمع وقيمه.

 

2- إنشاء هيئة شرعية استشارية (مجلس شورى فقهي):

 

  • تتألف من علماء ذوي خبرة في الفقه ومقاصده، لمراجعة التشريعات قبل التصويت عليها.

 

  • تضمن اتساق القوانين مع أصول الشريعة ومقاصدها الإصلاحية والحضارية.

 

  • توفر ضمانة علمية وأخلاقية تحمي التشريعات من التعارض مع المرجعية العليا للأمة.

 

3- ربط الشرعية القانونية بالرضا الشعبي والمعنى الأخلاقي:

 

يمنح القانون حياة في وجدان الناس ويجعل تطبيقه جزءاً من احترامهم لقيمهم ومعتقداتهم.

 

تعزز مشروعية القوانين من خلال مطابقتها للنص الشرعي وقبول الأمة بها.

 

يرسخ هذا الربط الثقة بين الحاكم والمحكوم، ويجعل النظام القانوني خادماً للقيم ومعبّراً عن إرادة الأمة.

 

الخاتمة:

 

إن بناء سوريا بعد التحرير ليس مجرد إعادة نظام سياسي، بل هو تجديد لعلاقة الأمة بالشريعة والدعوة والمؤسسات العامة، ويُعدّ مجلس الشعب البوتقة التي يجب أن تنصهر فيها التشريعات والضمائر، لتنتج نموذج دولة تستمد مشروعيتها من الوحي، وتبني رؤيتها على قيم العدل والحرية والكرامة. ومن هنا تتكامل الوظيفة التشريعية مع الوظيفة الدعوية في سياق إصلاح ديني يواكب التحرير ويؤسّس للنهضة.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…

القائمة