شهدت سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية لعائلة الأسد تحوّلًا دراماتيكيًا مضطربا في فلسفة إدارة الاقتصاد الوطني فقد انتقلت الدولة من نموذج الكينزية المشوّهة التي امتزجت لعقود بالاستبداد و البيروقراطية الثقيلة تنتقل البلاد اليوم بسرعة نحو عقيدة اقتصادية نيوليبرالية تتشكل ملامحها عبر السوق والهيئات لا عبر مؤسسات الدولة الرسمية بضوابط مؤسسية غير رسمية وضعيفة فهل هذا الانتقال نتيجة مراجعة اقتصادية جادة للنموذج الاقتصادي السابق أما هو أسلوب يهدف لدمج الكيانات والشبكات الاقتصادية التي نشأت على امتداد 14 عامًا من اقتصاد الحرب ضمن البنية الاقتصادية الرسمية الجديدة وبين ضغط الواقع ورغبة الدولة في إعادة بناء الاقتصاد تصبح مسألة رسم السياسة التنموية هي التحدي الأبرز؛ إذ تواجه الدولة معضلة تأسيس إطار تنموي قادر على ضبط السوق وترشيد الموارد وتوجيه رأس المال الاستثمار وحتى توجيه برامج التنموية الدولية
لم تُطبّق سورية الكينزية بمعناها الحقيقي فاقتصاد ما قبل 2011 كان قائمًا على نموذج هجين يجمع بين قطاع عام ضخم وغير فعّال، ودعم مالي يفتقد للعدالة الاجتماعية واعتماد مفرط على الواردات مع صناعات ضعيفة الإنتاجية ما جعله يستنزف خزينة الدولة بدل أن يعزّز الإنتاج الصناعي والزراعي ترافقت هذه البنية مع جهاز بيروقراطي مترهّل ضعيف التخطيط وسياسات اقتصادية مركزية افتقرت للمرونة والكفاءة وقد شكّلت هذه العوامل أحد المحركات الاقتصادية التي ساهمت في انفجار الثورة ومع اندلاع الصراع تحوّل هذا النموذج من خلل بنيوي إلى عبء ثقيل على الاقتصاد وجرى فعليًا تسليم جزء كبير من النشاط الاقتصادي إلى شبكات الحرب و فاعلين ما دون الدولة مما ضاعف حجم اقتصاد الظل وهكذا كشف الصراع حدود الكينزية المشوّهة وأبرز دورها السلبي في تسريع الانهيار بدل تخفيف الصدمة الاقتصادية.
سلطة تصل إلى اقتصاد لم يعد لها، أباطرة إمبراطورية أسماء الأسد المالية جردوا سورية من اقتصادها الحقيقي
في سنوات الصراع أصبحت سورية ساحة يُدار فيها الاقتصاد خارج مؤسسات الدولة فحلّت شبكات النفوذ وامراء الحرب الاقتصاديين والوسطاء، وأباطرة إمبراطورية أسماء الأسد المالية، ورجال الأعمال الجدد مكان القنوات الاقتصادية الرسمية وتمددت أنشطة التهريب والاقتصاد الأسود وتجارة الكابتكون وصفقات احتكارية خلقت ما يمكن وصفه (نخبة حرب) تشكّل اليوم أحد العوائق أمام إعادة بناء الاقتصاد الوطني فالنقاش حول النيوليبرالية في سورية اليوم لا يتعلق بتحرير السوق فقط بل يتعلق بسؤال أكبر هو
هل تبني عقيدة اقتصادية نيوليبرالية سيساعد في رسم السياسة التنموية بالدولة ؟
في هذا السياق أصبح النقاش حول النيوليبرالية في سورية لا يقتصر على تحرير السوق فقط، بل يتعلق بسؤال أوسع: هل يمكن لعقيدة اقتصادية نيوليبرالية أن تسهم في صياغة سياسة تنموية فعالة؟
يبدو أن تحرك الدولة السورية نحو النيوليبرالية ليس مجرد خيار فكري، بل محاولة لدمج هذه الشبكات الاقتصادية ضمن نظام قانوني مُقعّد، لتجنب انفجار اقتصادي آخر، مع الإقرار في الانتقادات الشديدة عالميًا للنموذج النيوليبرالي خصوصًا في بيئات ما بعد الصراع إلا أن الحالة السورية تبدو مختلفة جزئيًا فالاقتصاد المنهَك والقطاع العام غير الفعّال والموارد المالية المحدودة يجعل من تحرير السوق خيارًا واقعيًا لا مفر منه إذا أُخذت النيوليبرالية كعقيدة اقتصادية بشرط توفير مجموعة قواعد أساسية تقوم على:
- ضمان عدالة النفاذ إلى السوق بحيث لا تتحول النيوليبرالية إلى احتكار بيد قلة
2- توجيه المنظمات الدولية والمانحة باتجاه برنامج و أجندة الدولة التنموية
3- تخطيط وتوجيه الجغرافية الاستثمارية كأداة لتعزيز العدالة الانتقالية في المناطق المتضررة والمهدمة
4- تحرير التجارة وتحفيز القطاع الخاص وتقليص دور الدولة في النشاط التجاري المباشر
إذا تمت مأسسة التحول الاقتصادي ضمن إطار تنموي متماسك، فقد تتحول النيوليبرالية من (وصفة متوحشة) إلى فرصة لتعافي الاقتصاد السوري وتعزيز الإنتاج الصناعي والزراعي وتوجيه المال نحو القطاعات التي تصنع النمو الحقيقي في الدولة
وبذلك اليوم لم يعد الخيار اليوم بين كينزية ونيوليبرالية، بل بين اقتصاد يُدار عبر الشبكات والفاعلين ما دون الدولة يخدمون شبكة مصالحهم الخاصة أو اقتصاد يُدار بعقل الدولة ومؤسساتها يتبنى مشروع اقتصادي حديث يعيد صياغة دور الدولة وينهض بالإنتاج الصناعي والزراعي ويعيد دمج سورية في الاقتصاد العالمي وفي ظل غياب البدائل العملية تبدو النيوليبرالية المؤسّسة والمنضبطة واحدة من أهم الأدوات الممكنة لرسم السياسة التنموية في سورية الجديدة اقتصادًا يبحث عن الخروج من الركام إلى مسار تعافي مستدام يحقق العدالة الاقتصادية واستقرار طويل المدى.