من مجلس التصفيق إلى برلمان القرار: هل بدأ عهد السياسة الحقيقية في سوريا؟

إرث مظلم
كيف أصبح مجلس الشعب مسرح التصفيق بلا صوت للمواطن؟

 

لم يكن مجلس الشعب في سوريا خلال العقود السابقة سوى انعكاس حي لانغلاق الحياة السياسية وشبه انعدام الحياة البرلمانية الحقيقية. فمنذ سبعينيات القرن الماضي تحوّلت قاعة المجلس من منبر للتشريع إلى منصّة للتصفيق الإجباري والولاء المطلق. وغابت الرقابة وذابت المساءلة وسيطر الانسجام الموجّه مع رأس السلطة حتى أصبحت الجلسات أقرب إلى تمثيليات بروتوكولية تُصوَّر وتُبثّ، لا تُناقش فيها مصالح الناس، بل تُسوّق فيها قرارات الحكومة كمنجزات غير قابلة للنقد.

كان المواطن السوري يعلم في قرارة نفسه أن المجلس لا يعبّر عنه وأن مرشحيه يُنتقَون لا يُنتَخَبون وأن السلطة لا ترى في البرلمان سوى واجهة دستورية لترسيخ حكم الفرد. بل بات المجلس منقطعاً تماماً عن الحياة اليومية للشعب، لا يتدخل في ملفات البطالة أو الأسعار أو الخدمات أو العدالة الاجتماعية، ولا يحاسب وزراء فاسدين أو سياسات عقيمة.

ومع استمرار سنوات الحرب وتفاقم المعاناة تعمق الشرخ بين الناس وممثليهم المفترضين حتى غدت فكرة مجلس الشعب نفسها محل تهكّم شعبي يُرمز إليه ساخرًا بأنه مجلس التصفيق لا التشريع و منبر الصمت لا صوت الضمير العام.

 

التحرير والتعليمات الأولية
لماذا الآن بالتحديد؟

 

اليوم وبعد أن تحررت سوريا من نظام الاستبداد وانطلقت المرحلة الانتقالية تلوح فرصة تاريخية لإعادة بناء الحياة السياسية من أساسها. أحد أول أبواب هذه العودة هو إعادة تفعيل مجلس الشعب ليس كإجراء دستوري فحسب بل كضرورة وطنية لإعادة تنظيم العلاقة بين المواطن والدولة وإنتاج سلطة تشريعية حقيقية تؤسس لجمهورية جديدة لا تكرّر عيوب النظام السابق.

السلطة الانتقالية بما تمتلكه من شرعية سياسية وقانونية حالياً تضع على عاتقها مسؤولية بناء مؤسسة برلمانية ذات كفاءة واستقلال وتمثيل لا يمكن أن تكون صدى لحكومة مؤقتة بل يجب أن تكون مصدراً للمحاسبة والتقويم ووضع السياسات العامة التي تراعي حاجات المجتمع السوري بكل تنوعه.

التوقيت بالغ الحساسية: في ظل رفع كاما للعقوبات وبوادر مشاريع إعادة الإعمار وضغوط متزايدة من الطبقة الفقيرة واحتقان شعبي بسبب البطالة والتضخم فإن غياب مجلس فعّال قد يعيد البلاد إلى دائرة الانفجار الاجتماعي. لذا فإن تشكيل مجلس بوعي وطني عالٍ وتفويض حقيقي هو الضمانة الأولى لاستقرار قادم.

 

نهاية عصر الخطابات الجوفاء
البرلمانية الواقعية التي نحتاجها:

 

لقد أثبتت التجربة أن الخطاب السياسي المتضخم مهما بلغ من بلاغة لفظية لا يبني وطناً ولا يرمم أزمة. السوريون تعبوا من التنظير ومن المشاريع التي تبدأ بورش العمل وتنتهي دون أثر. ما نحتاجه اليوم هو برلمان بتركيبة واقعية يجمع بين القانونيين وأهل الخبرة والاقتصاد والفكر والعدالة لا أصحاب الشعارات الباهتة.

البرلمان الواقعي هو الذي لا يخشى مناقشة أكثر الملفات حساسية من العدالة الانتقالية إلى توزيع الثروة واللامركزية الإدارية ومن ملف السجناء والمغيبين إلى قوانين التعليم والاستثمار. هو مجلس يُشرك المجتمع المدني في القرارات ويصغي إلى صوت المهجرين ولا يترك شؤون الريف بيد تقارير بيروقراطية لا تمس الواقع.

البرلمانية الواقعية تبدأ من الاعتراف بأن سوريا بلد متنوع متضرر متعافٍ جزئياً وأن أي تشريع لا يضع أولوياته وفق سلم الاحتياجات اليومية للمواطن لن يجد شرعية أو تجاوباً.

 

تمثيل يحاكي الواقع
خطورة محاصرة البرلمان بصيغ مزعزعة للولاء:

 

أحد أبرز أخطاء المرحلة السابقة كان الاعتماد على الولاء السياسي أو الحزبي كمعيار وحيد في تشكيل المجلس. هذه الصيغة أنتجت ما يشبه غرفة أصدقاء السلطة لا ممثلين للشعب. أما في الجمهورية الجديدة فإن التمثيل الحقيقي لا يُبنى على قاعدة من معنا بل على من يمثل الناس فعلاً.

يجب ألا يتحول المجلس إلى محفل للنخب المغلقة بل إلى فسيفساء تمثيلية شاملة لمختلف الشرائح الاجتماعية: النساء الأقليات الشباب الريف المدن المدمرة النقابات الجامعات والكوادر الطبية والهندسية. بل إن التمثيل يجب أن يكون منظمًا على قاعدة المشاركة لا التعيين وعلى الكفاءة لا القرب من السلطة.

في حالة كهذه يستطيع المجلس أن يعبّر عن وجدان الشعب السوري الجديد وعن فكره المتنوع فلا يكون البرلمان نسخة محسنة من النظام السابق بل حجر الأساس في بنية سياسية حديثة.

 

خارطة تشريعية طموحة قوانين تصنع فارقًا لا مجرد بيانات:

 

لا يكفي أن تكون للمجلس صلاحيته بل يجب أن يملك رؤية تشريعية واضحة تبدأ من اليوم الأول. المطلوب هو برلمان ينتج خارطة تشريعية تتعامل مع المرحلة الانتقالية لا كمجرد عبور بل كبداية تأسيسية.

الخط الأول: إقرار قانون العدالة الاجتماعية الطارئة يضمن إعانة شهرية مؤقتة للعائلات المتضررة من الحرب وربطه ببرنامج تدريبي مهني لاستيعاب الفئات الأكثر هشاشة.

 

الخط الثاني: إطلاق مشروع قانون الاستثمار الشعبي والذي يسمح للشركات السورية المتوسطة بالحصول على إعفاءات ضريبية لثلاث سنوات، مقابل توظيف 30% من الكوادر العاطلة عن العمل.

 

الخط الثالث: تطوير قانون التعليم العالي ليواكب التحول الرقمي العالمي وإدراج مفهوم الجامعة المنتجة بحيث يصبح التعليم قطاعاً فاعلاً لا مستهلكاً فقط.

 

الخط الرابع: تبني قوانين تخص الأرض والممتلكات تعيد الحقوق القانونية لأصحابها، وتمنع أي احتكار أو استغلال لعمليات إعادة الإعمار باسم المصلحة العامة.

 

كل هذه التشريعات يجب أن تكون قابلة للتنفيذ خلال عامين وأن يلتزم بها المجلس ضمن خطة مراقبة ومراجعة نصف سنوية.

 

الشباب
من دون مشاركة لا نملك مستقبلًا:

 

نسبة الشباب في سوريا تزيد عن 60% ومع ذلك كانوا مهمشين في السياسات العامة لعقود. الآن الفرصة سانحة لاستعادتهم إلى الفعل السياسي.

إن إشراك الشباب في مجلس الشعب ليس عملاً رمزياً بل ضرورة استراتيجية.
شباب سوريا يمتلكون أفكاراً متقدمة في التكنولوجيا إدارة الأعمال الاقتصاد والتنمية المجتمعية ويجب أن يُمنحوا الفرصة لبلورة تشريعات تترجم هذه المعرفة.

نقترح هنا إنشاء الهيئة الشبابية التشريعية وهي جسم استشاري دائم داخل البرلمان يُنتخب أعضاؤه من الجامعات والنقابات الطلابية ويمنح صلاحية طرح مشاريع قوانين ومتابعتها بما يشكل جسراً مستمراً بين الجيل الجديد والسلطة التشريعية.

 

دعوة إلى النخب
حين تتحد العقائد بالواقع:

 

من المهم أن تتقدم النخب الوطنية بكل أطيافها بمبادرات فعلية تترجم رؤاها إلى برامج قابلة للتنفيذ. آن الأوان للتوقف عن التراشق العشوائي والتوجه نحو شراكة إنتاجية.

النخبة التي تريد التأثير يجب أن تدخل المجلس وتطرح القوانين لا الخطابات وتشارك في اللجان لا في الفضائيات فقط. آن الأوان أن نرى نخبة تبني لا تعارض لمجرد المعارضة وتشارك في إدارة الدولة لا في نقدها من الخارج فقط.

 

رؤية مستقبلية واعدة
كيف يُصبح البرلمان منصة حقيقية للنهوض؟

في خمس سنوات يمكن أن يتحول مجلس الشعب من مؤسسة مشلولة إلى منصّة إنتاج تشريعي متكاملة إذا تم تصميم بنيته على أسس الحداثة والمهنية:

– نظام رقابي صارم على الحكومة
لجنة لمراقبة تنفيذ الموازنة بكل محافظة
مراكز دراسات تشريعية مستقلة ملحقة بالمجلس
– شراكات مع الجامعات ومراكز الأبحاث لتطوير القوانين
– حضور إعلامي فعال وشفاف لكل نقاش
عندها يصبح البرلمان عنواناً للمشاركة السياسية لا للتزيين ومنصة للمصالحة الوطنية لا للخطاب الواحد.

 

الخيار أمامنا واضح:

 

أمامنا خياران لا ثالث لهما: إما مجلس شعب جديد يعبّر عن الوجدان الوطني يعالج القضايا بجدية ويربط السلطة بالشعب بعقد اجتماعي جديد وإما إعادة إنتاج مجلس تصفيق آخر يُغلق في وجه الناس وينفصل عن همومهم.

الفرصة الآن تاريخية ولن تتكرر. ومَن يصيغ مجلس الشعب الآن يصوغ مستقبل سوريا لعقود قادمة.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

حوار سياسي تناول تحديات العمل الحزبي وآفاق التعددية السياسية في سوريا المستقبل….
حين يصبح السؤال: لماذا توقفت المعونة؟ بدلًا من: كيف أبدأ أعمل؟ نعرف أننا أمام أزمة وعي لا أزمة مال…
ترفض سوريا التطبيع مع إسرائيل رفضاً قاطعاً يستند إلى تجربتها الثورية واحتلال الجولان، إضافة إلى الدعم الشعبي والديني الراسخ لقضية…

القائمة