من العزلة إلى الانفتاح: مفاجأة استراتيجية في العلاقة السورية الأمريكية

يشهد الشرق الأوسط في هذه المرحلة تحولات دقيقة تعكس إعادة ترتيب التوازنات الإقليمية والدولية، في ظل إشارات متزايدة إلى تقارب تدريجي بين دمشق وواشنطن بعد سنوات طويلة من القطيعة والعقوبات. هذا المسار، وإن كان لا يزال في بداياته، يثير جدلاً واسعاً حول انعكاساته على الأمن الإقليمي، ويضع إسرائيل أمام معادلة جديدة قد تحدّ من قدرتها على المناورة في الساحة السورية.

 

من منظور الولايات المتحدة، تبدو سوريا اليوم عنصراً أساسياً في معادلة مكافحة الإرهاب وضبط الحدود. فواشنطن تدرك أن استقرار الدولة السورية يقلل من احتمالات عودة تنظيم داعش أو تمدد الفوضى عبر الحدود العراقية والأردنية والتركية. لهذا السبب، تتبنى الإدارة الأمريكية مقاربة يمكن وصفها بـ”الاستقرار المحسوب”، تقوم على تعاون أمني محدود مع دمشق، يشمل تبادل معلومات استخباراتية ومراقبة الحدود، مع إمكانية تخفيف تدريجي للعقوبات إذا ما أظهرت الحكومة السورية استعداداً للتجاوب مع هذه الترتيبات.

 

لكن هذا الانفتاح الأمريكي يثير قلقاً بالغاً في إسرائيل، التي ترى في أي تحسن في موقع سوريا الإقليمي تهديداً مباشراً لتوازن التفوق العسكري الذي كرسته خلال سنوات الصراع. إسرائيل تخشى أن يؤدي التقارب الأمريكي–السوري إلى تقليص هامش حريتها في تنفيذ عمليات عسكرية داخل الأراضي السورية، خصوصاً في الجولان والجنوب، حيث تسعى منذ سنوات إلى فرض وقائع ميدانية تضمن لها السيطرة الأمنية. لذلك، تعمل تل أبيب على التأثير في القرار الأمريكي لمنع تخفيف العقوبات، وتحرص على إبقاء الجنوب السوري منطقة رخوة يمكن استخدامها كورقة ضغط عبر دعم محدود لبعض التحركات المحلية.

 

في المقابل، يبرز الدور الإقليمي للأردن وتركيا كعامل مؤثر في صياغة التفاهمات الجديدة. الأردن، بحكم موقعه الجغرافي وصلاته التاريخية بسوريا، يرى في الاستقرار مصلحة مباشرة مرتبطة بأمن حدوده الجنوبية ومكافحة التهريب والفوضى. أما تركيا، فتتحرك عبر تعاون عملي مع واشنطن في الشمال السوري، ما يمنحها نفوذاً إضافياً في رسم التوازنات ويقلل من قدرة إسرائيل على التأثير المنفرد. هذا التداخل الإقليمي يعكس أن الملف السوري لم يعد حكراً على طرف واحد، بل أصبح ساحة لتقاطع مصالح متعددة تتطلب إدارة دقيقة.

 

المشهد العام يوحي بمرحلة انتقالية تتسم بالحذر والتفاوض. الولايات المتحدة تتجه نحو مقاربة أكثر واقعية، تدرك أن تجاهل دمشق لم يعد خياراً عملياً في ظل الحاجة لضبط الأمن الإقليمي. إسرائيل، من جانبها، تحاول الحفاظ على معادلة التفوق الأمني عبر أدوات الضغط السياسي والعسكري، فيما تسعى دمشق لاستعادة دورها الإقليمي وسط شبكة معقدة من الحسابات الدولية. هذه المعادلة تفتح الباب أمام احتمالات متباينة: من جهة، إمكانية بناء تفاهمات أمنية جديدة تساهم في استقرار المنطقة؛ ومن جهة أخرى، خطر التصعيد الإسرائيلي إذا شعرت تل أبيب أن مصالحها الاستراتيجية مهددة.

 

من زاوية تحليلية، يمكن القول إن التقارب الأمريكي–السوري يمثل فرصة لإعادة إدماج دمشق في النظام الإقليمي والدولي، بما يعزز من استقرار الشرق الأوسط ويقلل من احتمالات عودة الفوضى. لكنه في الوقت ذاته يفرض تحديات على إسرائيل التي اعتادت على استغلال الأزمة السورية لتوسيع نفوذها العسكري والسياسي. هذا التناقض يعكس جوهر المرحلة الراهنة: صراع بين منطق الاستقرار الذي تسعى إليه واشنطن وشركاؤها الإقليميون، ومنطق التفوق الذي تتمسك به إسرائيل.

 

الخلاصة أن الشرق الأوسط يقف أمام منعطف جديد قد يعيد رسم خرائط النفوذ والتحالفات. إذا استمر المسار الأمريكي–السوري، فقد نشهد إعادة تشكيل نظام إقليمي أكثر براغماتية وأقل صدامية، يقوم على تفاهمات أمنية واقعية. أما إذا نجحت إسرائيل في عرقلة هذا المسار، فإن المنطقة ستبقى رهينة لمعادلة الصراع المفتوح، حيث الاستقرار مؤجل لصالح حسابات التفوق العسكري. في كلتا الحالتين، يبقى الملف السوري محوراً أساسياً في معادلة الأمن الإقليمي، ومؤشراً على طبيعة التحولات التي ستحدد مستقبل الشرق الأوسط في السنوات القادمة.

د. مشهور سلامة

Dr.mashhour salameh

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…

القائمة