أفرزت العقود الطويلة من الاستبداد التي عاشها المجتمع السوري آثاراً بنيوية عميقة على الصحة النفسية والروابط الاجتماعية، إذ لم يقتصر أثرها على بنية الدولة ومؤسساتها،
بل تسربت إلى الأفراد وعلاقاتهم اليومية، مُشكِّلةً بيئة مثقلة بالاضطرابات والاختلالات، يمكن تحديد أبرز مظاهرها كما يلي:
1- تفكك الروابط الاجتماعية وتراجع الثقة المتبادلة: غياب العقد الاجتماعي بين الفرد والدولة خلق حالة من العزلة النفسية والاغتراب، انعكست في ارتفاع مستويات القلق وفقدان الأمان.
2 انتشار الفساد الإداري والاقتصادي: حيث أدى إلى انهيار شعور الفرد بالاستقرار المعيشي والاجتماعي، وعمّق الإحباط الجمعي.
3 الاضطرابات النفسية واسعة الانتشار: الحرب المستمرة وما رافقها من عنف ولّد معدلات مرتفعة من اضطراب ما بعد الصدمة، الاكتئاب، والقلق، في ظل ضعف البنية التحتية الداعمة للخدمات النفسية.
4 تصاعد الانقسامات المجتمعية والطائفية: وهو ما عمّق الشعور بالخوف وفقدان الانتماء، وأضعف اللحمة الوطنية.
5 غياب التشريعات الناظمة للصحة النفسية: مما أدى إلى تفاقم الوصمة الاجتماعية المرتبطة بالاضطرابات النفسية، ومنع كثير من المرضى من الاندماج في المجتمع أو الحصول على حقوقهم.
الحاجة إلى إطار تشريعي جديد:
يشكل التشريع أحد الأعمدة الأساسية لإعادة بناء المجتمع السوري نفسياً واجتماعياً، إذ أن غياب القوانين العادلة كان سبباً مباشراً في استدامة الأزمات، وتتجلى أبرز الأولويات التشريعية فيما يلي:
1 إقرار قوانين متكاملة للصحة النفسية، تضمن العلاج المؤهل وحقوق المرضى، وتدمج الصحة النفسية في السياسات العامة.
2 تشريعات صارمة لمكافحة الفساد، مع إدراك آثاره النفسية والاجتماعية، وإرساء قيم الشفافية.
3 سن قوانين لإعادة التأهيل النفسي والاجتماعي للناجين من الحرب، بما يحفظ كرامتهم ويعيد دمجهم في المجتمع.
4 تعزيز التشريعات الضامنة لحقوق المرأة والأقليات، بما يحقق المساواة وتكافؤ الفرص ويقلل التمييز.
5 وضع قوانين تتيح مشاركة المجتمعات المحلية في اتخاذ القرارات ذات البعد الاجتماعي والنفسي، لتعزيز الانتماء والمسؤولية.
التحديات الراهنة أمام الإصلاح:
رغم الحاجة الماسة إلى هذه الإصلاحات، إلا أن ثمة عقبات رئيسية تعيق التنفيذ:
- نقص البنية التحتية والدعم المؤسساتي لخدمات الصحة النفسية.
- استمرار الوصمة الاجتماعية التي تحيط بالأمراض النفسية.
- قلة الكوادر المتخصصة المؤهلة نفسياً واجتماعياً.
- هشاشة النسيج الاجتماعي والصراعات الهوياتية والطائفية.
ولمعالجة هذه التحديات، يستوجب الأمر التخطيط الاستراتيجي لبناء مؤسسات متخصصة، وإطلاق برامج تدريبية متقدمة، إلى جانب حملات توعية تقلل الوصمة وتعيد الثقة المجتمعية.
آفاق المستقبل النفسي والاجتماعي في سوريا:
إن تجاوز هذه التحديات عبر إصلاحات تشريعية ومؤسساتية سيقود إلى مجتمع أكثر تماسكاً وصحة نفسية، ومن المتوقع أن يفضي ذلك إلى خفض معدلات العنف والعدوانية، وتحسين جودة الحياة للأفراد والأسر، وتعزيز السلم الأهلي، كما ستلعب المؤسسات النفسية والاجتماعية الحديثة دوراً محورياً في تحويل الفرد من ضحية للصراع إلى فاعل إيجابي يسهم في التنمية المستدامة، وبناء سوريا جديدة قائمة على قيم المواطنة والعدالة والتماسك المجتمعي.
توصيات سياسية لإعادة بناء النسيج الاجتماعي في سوريا:
تبني برامج وطنية شاملة للمصالحة والعدالة الانتقالية، بإشراك جميع مكونات المجتمع.
إعادة هيكلة المؤسسات الاجتماعية والخدمية لتكون أكثر فاعلية في تقديم الدعم النفسي والاجتماعي.
دعم برامج تأهيل الأسرة والشباب مع ربطها بمشاريع التمكين الاقتصادي والاجتماعي.
اعتماد سياسات متكاملة لمكافحة الفقر والبطالة ضمن إطار إعادة الإعمار.
تعزيز حملات التوعية بأهمية الصحة النفسية ومكافحة الوصمة الاجتماعية.
تمكين المجتمع المدني ومنظمات العمل الأهلي كشريك رئيسي في إعادة البناء.
إنشاء آليات وطنية للرصد والتقييم المستمر لفعالية السياسات النفسية والاجتماعية، مع المرونة في التعديل وفق النتائج.
د. دعوة الأحدب