ملامح الإصلاح التشريعي والدبلوماسي في سوريا خلال المرحلة الانتقالية

في أعقاب سقوط النظام البائد، تتحرك سوريا بخطى محسوبة نحو استعادة حضورها الدبلوماسي، مستفيدة من لحظة انتقالية نادرة لإعادة صياغة علاقاتها الخارجية على أسس الشرعية والشفافية والمصالح الوطنية، وبينما تنفض البلاد غبار عقود من العزلة والفساد، تفتح المرحلة الجديدة بابا واسعا لبناء شراكات دولية متوازنة، تعيد لسوريا مكانتها كدولة فاعلة لا دولة مدارة.

إن تقدم الدبلوماسية السورية في الأشهر الأخيرة من توسيع جسور التواصل مع العواصم الإقليمية، إلى الانخراط في مباحثات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، وصولا إلى تنشيط دور البعثات الخارجية يعكس رغبة واضحة في رسم سياسة خارجية مسؤولة، تدار بعقل الدولة لا بعقل الأجهزة.


أبرز مظاهر الخلل والفساد التي تركها النظام البائد في سوريا؟

ترك النظام السوري السابق العديد من مظاهر الخلل والفساد في علاقاته الدولية، أبرزها:

 

العزلة الدولية: العقوبات الأمريكية المفروضة على سوريا، خاصة تلك التي تستهدف نظام الأسد بسبب انتهاكات حقوق الإنسان ودعم الإرهاب، هي عامل رئيسي ومحوري في العزلة الدولية لسوريا.

هذه العقوبات، بالإضافة إلى عقوبات أخرى من الاتحاد الأوروبي ودول أخرى، لا تستهدف فقط النظام الحاكم، بل لها تأثيرات واسعة النطاق على الاقتصاد السوري والمجتمع بشكل عام.

يجي ان يتم التعامل مع هذا التحدي في المرحلة الانتقالية:

أي حكومة انتقالية في سوريا ستحتاج إلى إظهار التزام لا يتزعزع بـ:

  • العدالة والمساءلة: التحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ومحاسبة المسؤولين.

 

  • وقف دعم أي جماعات مهاجرة: والتعاون الفعال مع المجتمع الدولي في مكافحة الإرهاب.

 

  • الإصلاحات السياسية والاقتصادية: بناء دولة ديمقراطية وشفافة تحترم سيادة القانون.

 

هذه الخطوات هي السبيل الوحيد لإقناع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي بإعادة تقييم سياسات العقوبات، وفتح الباب أمام رفعها تدريجياً، وبالتالي كسر العزلة الدولية.

 

التدخل في شؤون الدول الأخرى: تدخل نظام الأسد في شؤون الدول الأخرى، وخاصة لبنان والعراق، له تأثيرات سلبية كبيرة:

 

  • توليد التوترات الإقليمية:

في لبنان: تاريخياً، كان لسوريا نفوذ عسكري وسياسي كبير في لبنان، وتدخلت في شؤونه الداخلية بشكل مباشر وغير مباشر، مما أثار استياء شريحة واسعة من اللبنانيين والمجتمع الدولي. هذا التدخل أدى إلى توترات مستمرة وعرقلة للاستقرار اللبناني.

في العراق: الاتهامات الموجهة للنظام السوري بدعم جماعات مسلحة أو السماح بعبور مقاتلين عبر الحدود، أدت إلى توترات مع العراق، خاصة في فترات معينة.

 

  • تآكل الثقة الإقليمية والدولية:

هذه التدخلات تُنظر إليها على أنها انتهاك لسيادة الدول الأخرى ومبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو ركيزة أساسية في القانون الدولي والعلاقات بين الدول.

تثير الشكوك حول نوايا النظام السوري وتجعله يُنظر إليه كعامل مزعزع للاستقرار في المنطقة، وليس كشريك موثوق.

 

  • تعقيد أي عملية مصالحة أو تطبيع:

حتى لو حدثت إصلاحات داخلية في سوريا، فإن إرث هذه التدخلات سيظل عقبة أمام تطبيع العلاقات مع الدول المتضررة، وخاصة لبنان. سيتطلب الأمر جهوداً كبيرة لإعادة بناء الثقة مع هذه الدول.

الدول الإقليمية والدولية لن تكون مستعدة للتعامل الكامل مع سوريا ما لم تضمن أن سياساتها الخارجية ستكون قائمة على احترام سيادة الجيران وعدم التدخل.

 

كيف يمكن للحكومة في مرحلة انتقالية في سوريا معالجة هذا التحدي؟

 

للتغلب على هذا التحدي، يجب على  الحكومة السورية الانتقالية أن تلتزم بـ:

 

  • سياسة خارجية قائمة على احترام السيادة: الإعلان بوضوح والالتزام العملي بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.

 

  • بناء علاقات حسن جوار: السعي بجدية لإعادة بناء علاقات إيجابية مع لبنان والعراق وجميع دول الجوار، قائمة على الاحترام المتبادل والتعاون.

 

  • التعاون الأمني المشترك: في قضايا مثل مكافحة الإرهاب وأمن الحدود، ولكن بطريقة شفافة وبتنسيق كامل مع الدول المعنية، وليس بفرض الإرادة.

 

  • الاعتذار والتعويض (إذا لزم الأمر): في بعض الحالات، قد يتطلب الأمر الاعتراف بالأخطاء السابقة وتقديم اعتذارات أو تعويضات رمزية لضحايا التدخلات، كخطوة نحو المصالحة.

 

إن التخلي عن سياسة التدخل في شؤون الجيران هو خطوة أساسية لاستعادة سوريا لمكانتها كدولة مسؤولة ومستقرة في المنطقة، وشرط لا غنى عنه لكسر عزلتها الدولية.

 

 

ما أهم القضايا أو الملفات التشريعية العاجلة التي  تحتاج إلى معالجة في المرحلة الانتقالية؟

 

في المرحلة الانتقالية بسوريا، هناك عدة قضايا وملفات تشريعية عاجلة تحتاج إلى معالجة لضمان الاستقرار وإعادة بناء الدولة، منها:

 

■ إصلاح دستوري شامل: صياغة دستور جديد يضمن حقوق جميع المواطنين ويحدد صلاحيات السلطات بشكل واضح ويؤسس لدولة تحترم حقوق المواطنين.

 

 

■ قوانين العدالة الانتقالية: تشمل آليات المحاسبة والمساءلة عن الجرائم المرتكبة، وجبر الضرر للضحايا، وإنشاء لجان الحقيقة والمصالحة.

 

 

■ قوانين إعادة الإعمار والتنمية: وضع إطار قانوني لجذب الاستثمارات، وتنظيم عملية إعادة بناء البنى التحتية، وتوزيع الموارد بشكل عادل.

 

 

■ إصلاح القطاع الأمني والعسكري: إعادة هيكلة القوات المسلحة والأجهزة الأمنية لضمان ولائها للدولة والمؤسسات الدستورية، وتجريدها من أي طابع حزبي أو طائفي.

 

 

■ قوانين عودة اللاجئين والنازحين: ضمان عودتهم الآمنة والطوعية، واستعادة ممتلكاتهم، وتوفير الدعم اللازم لإعادة دمجهم في المجتمع.

 

 

■إصلاح القضاء: ضمان استقلالية القضاء ونزاهته، وإلغاء القوانين الاستثنائية، وتحديث التشريعات بما يتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.

 

 

■قوانين مكافحة الفساد: وضع آليات فعالة لمكافحة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة، وتعزيز الشفافية والمساءلة في جميع مؤسسات الدولة.

 

 

■ تشريعات عودة اللاجئين والنازحين وتأمين حقوقهم: وضع قوانين تضمن العودة الآمنة والطوعية للاجئين والنازحين، وتكفل حقوق الملكية، وتوفر آليات للتعويض عن الأضرار، وتسهل دمجهم في المجتمع. هذه القوانين ضرورية لاستعادة الثقة الدولية ودعم عملية العودة.

 

 

■ قوانين تجميد الأصول ومكافحة غسل الأموال: تحديث وتفعيل التشريعات المتعلقة بمكافحة الفساد وغسل الأموال وتمويل الإرهاب، بما يتماشى مع المعايير الدولية. هذا ضروري لاستعادة الثقة في النظام المالي السوري ورفع العقوبات تدريجياً.

 

 

■ تشريعات التعاون الدولي في مكافحة الإرهاب: مراجعة وتحديث القوانين المتعلقة بمكافحة الإرهاب لضمان توافقها مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، وتعزيز التعاون مع الدول والمنظمات الدولية في هذا المجال.

 

 

■ قوانين الشفافية والمساءلة في إدارة المساعدات الدولية وإعادة الإعمار: وضع إطار قانوني يضمن الشفافية والمساءلة في استقبال وإدارة المساعدات الدولية وتمويل مشاريع إعادة الإعمار، لمنع الفساد وضمان وصول المساعدات لمستحقيها، وهو شرط أساسي لجذب الدعم الدولي.

 

 

■ تشريعات الامتثال للقرارات الدولية: سن قوانين تضمن التزام سوريا بالقرارات الدولية ذات الصلة، خاصة تلك المتعلقة بالأسلحة الكيميائية وحقوق الإنسان، مما يعزز مصداقية الدولة على الساحة الدولية.

 

 

■ قوانين تسهيل الاستثمار الأجنبي المباشر: وضع إطار قانوني جذاب وشفاف لتشجيع الاستثمار الأجنبي في إعادة الإعمار، مع حماية حقوق المستثمرين وضمان بيئة عمل مستقرة.

 

 

ما التحديات أو العقبات التي تواجه عملية الإصلاح في العلاقات السورية مع الخارج ؟ وكيف يمكن التعامل معها بفعالية؟

 

◇غياب الثقة الدولية وتراكم الانتهاكات السابقة:

 

سنوات الصراع والانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان واستخدام الأسلحة الكيميائية قد أدت إلى فقدان شبه كامل للثقة الدولية في أي حكومة سورية مستقبلية، وجعلت العديد من الدول تتردد في التعامل أو تقديم الدعم.

و يتطلب ذلك اتخاذ خطوات ملموسة وشفافة تجاه العدالة الانتقالية والمحاسبة. يجب إنشاء آليات مستقلة وموثوقة للتحقيق في الجرائم، وجبر الضرر للضحايا، وتقديم المسؤولين للعدالة. إصدار قوانين جديدة تضمن الحريات الأساسية وحقوق الإنسان، وتطبيقها بصرامة، يعد حجر الزاوية لاستعادة المصداقية.

 

◇ تأثير العقوبات الدولية القائمة:

 

العقوبات الاقتصادية والسياسية المفروضة على سوريا تعيق بشكل كبير أي جهود لإعادة الإعمار والتنمية، وتحد من قدرة الحكومة الانتقالية على الانخراط في التجارة الدولية وجذب الاستثمارات، مما يؤثر سلباً على قدرتها على توفير الخدمات الأساسية للمواطنين.

ويجب على الحكومة الانتقالية أن تظهر التزاماً حقيقياً بالإصلاحات السياسية والاقتصادية التي تتوافق مع المعايير الدولية. التواصل الفعال والشفاف مع الدول الكبرى والمنظمات الدولية لشرح التقدم المحرز يمكن أن يفتح الباب أمام تخفيف تدريجي للعقوبات، خاصة تلك التي تؤثر على المساعدات الإنسانية ومشاريع إعادة الإعمار الأساسية.

 

◇ التدخلات الإقليمية والدولية المتضاربة:

 

سوريا أصبحت ساحة لتنافس القوى الإقليمية والدولية، ولكل منها مصالحها وأجنداتها الخاصة، مما يعقد عملية بناء توافق وطني ودولي حول مستقبل سوريا، ويجعل من الصعب على أي حكومة انتقالية العمل بشكل مستقل وفعال.

و يتطلب ذلك دبلوماسية نشطة وذكية. يجب على الحكومة الانتقالية أن تسعى لبناء علاقات متوازنة مع جميع الأطراف الدولية والإقليمية، مع التأكيد على السيادة السورية والمصلحة الوطنية العليا. يمكن الاستفادة من المنصات الدولية مثل الأمم المتحدة لحشد الدعم للحلول السلمية والتوافقية، والضغط على الأطراف المتدخلة لاحترام سيادة سوريا.

 

◇ تحدي إعادة دمج سوريا في المنظومة الإقليمية والدولية:

 

بعد سنوات من العزلة، ستواجه سوريا صعوبة في استعادة عضويتها الكاملة والفعالة في المنظمات الإقليمية (مثل جامعة الدول العربية) والدولية، وتطبيع علاقاتها مع الدول المجاورة والعالم.

ويجب أن تبدأ الحكومة الانتقالية بخطوات عملية لإثبات حسن النوايا والالتزام بالتعاون الإقليمي والدولي. يمكن أن يشمل ذلك التعاون في قضايا مكافحة الإرهاب العابر للحدود، وإدارة ملفات الحدود المشتركة، والمشاركة في المبادرات الإقليمية. بناء الثقة يتطلب وقتاً وجهداً دبلوماسياً متواصلاً.

 

 

أتصور أن شكل ومستقبل العلاقات السورية الدولية في المرحلة الانتقالية، بعد تنفيذ إصلاحات تشريعية حقيقية وشاملة، سيشهد تحولاً إيجابياً وملموساً، وسيكون بمثابة نقطة انطلاق نحو استعادة سوريا لمكانتها الطبيعية كعضو فاعل ومحترم في المجتمع الدولي.

 

أولاً: استعادة الثقة والمصداقية: ستساهم الإصلاحات التشريعية، خاصة تلك المتعلقة بالعدالة الانتقالية وحقوق الإنسان ومكافحة الفساد، في بناء جسور الثقة المفقودة. ستبدأ الدول بالنظر إلى سوريا كشريك موثوق يلتزم بالمعايير الدولية، مما يفتح الأبواب أمام حوار بناء وتعاون أوسع.

 

ثانياً: رفع تدريجي للعقوبات وتدفق الاستثمارات: مع الإقرار الدولي بالإصلاحات، أتوقع رفعاً تدريجياً للعقوبات الاقتصادية. هذا سيحرر الاقتصاد السوري، ويسمح بتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة اللازمة لإعادة الإعمار والتنمية. ستصبح سوريا وجهة جاذبة للمستثمرين الذين يبحثون عن فرص في قطاعات البناء، الطاقة، والخدمات، مما يخلق فرص عمل ويحسن مستويات المعيشة.

 

ثالثاً: عودة الاندماج الإقليمي والدولي: أتوقع عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية ومنظمات إقليمية أخرى، وتطبيع كامل للعلاقات مع الدول المجاورة والعالم. ستشارك سوريا بفعالية في المبادرات الإقليمية والدولية، وستساهم في حل القضايا المشتركة مثل الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب وتغير المناخ، بدلاً من أن تكون مصدراً للقلق.

 

رابعاً: تعزيز التعاون في ملفات اللاجئين وإعادة الإعمار: ستتحول قضية اللاجئين من مصدر توتر إلى فرصة للتعاون الدولي. ستعمل سوريا مع الدول المضيفة والمنظمات الدولية لتسهيل العودة الآمنة والكريمة للاجئين، مع توفير الدعم اللازم لإعادة دمجهم. ستشهد عملية إعادة الإعمار شراكات دولية واسعة، مدفوعة بالشفافية والمساءلة التي تضمنها التشريعات الجديدة.

 

خامساً: بناء دولة القانون والمؤسسات: ستترسخ علاقات سوريا الدولية على أسس قوية من القانون والمؤسسات. لن تعتمد العلاقات على الأشخاص أو الأنظمة، بل على احترام المواثيق الدولية والالتزام بالمعايير العالمية، مما يضمن استقرار هذه العلاقات واستدامتها على المدى الطويل.

 

باختصار، ستكون المرحلة الانتقالية بعد الإصلاحات التشريعية الحقيقية هي بداية لعصر جديد لسوريا، عصر يتميز بالانفتاح، التعاون، والازدهار، حيث تستعيد سوريا مكانتها كدولة ذات سيادة ومساهم إيجابي في المجتمع الدولي.

 

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…
بكين ودمشق تلتقيان اليوم عند نقطة تحوّل حاسمة: الصين تبحث عن نفوذ آمن في الشرق الأوسط، وسوريا الجديدة تفتح أبوابها…

القائمة