كونيّة الإسلام السنّي ومأزق النّقد الطّائفي

تكوَّن لدي، وازداد رسوخاً في السنوات الأخيرة، انطباع بأن الكتابة في الطائفية وعن الطائفية تسلك منحى انتقائيّاً وتمييزيّاً سلبيّاً عند تناولها للإسلام السياسي السنّي. اللافت أن هذا التحيز لا يقتصر على الخطابات العدائيّة الصريحة، بل يشمل حتى أولئك الذين يرون في المسألة الطائفية «مشكلتنا السياسية بامتياز»، ويقرّون بطبيعتها الجدليّة المتبادلة، أي بوصفها علاقةً ذات طرفين وتفاعلات متبادلة.

 

ورغم هذا الإقرار، فإننا لا نلحظ في إنتاجهم، سواء البحثي أو النقدي أو الخطابي اليومي، أيَّ جهد مماثل لتناول «الطائفية غير السنّية».

 

وفي السياق السوري، تبيَّن لي مؤخراً، بالتوازي مع تصاعد النقاشات العامة حول طائفية النظام السوري البائد ـ التي شارك فيها طيفٌ واسع من السوريين وغير السوريين ـ أنّ ثمّة اتجاهاً لتحليل طائفيته بطريقة تخفيفية، إن لم تكن تبريرية في بعض الأحيان. وقد بلغ الأمر حدَّ تكرار مقولات عبثية من قبيل: «كان على الأقل علمانيّاً، يقتل على أساس غير ديني وبمساواة!»، وكأن هذه المساواة في الإبادة تُعَدُّ فضيلة.

 

ما يثير القلق أن مثل هذه المقولات باتت تُستقبَل من شرائح واسعة من الرأي العام، وكأنها تعبير ٌعن «لا مشكلة» مع جريمة تاريخية كبرى وقعت في سوريا، واستهدفت الآلاف من العرب السنّة.

 

ومع ذلك، فلنبقَ ضمن نطاق المتحدثين «الجيدين» أو «الأقل سوءاً»، ونترك جانباً الخطابات الفاقعة في تطرفها. أظنّ ـ إنصافاً لهؤلاء ـ أن هناك سبباً غير شخصي أو غير ذاتي لهذا التحيز؛ سبباً لا يعود فقط إلى الأهواء الفردية، بل يرتبط بطبيعة التكوّن التاريخيّ والفكريّ للإسلام السنّي، مقارنةً بالطوائف الأخرى، وهو ما يفضي إلى تركيز انتقائيّ على السنّة في الحديث عن الطائفية.

 

ويكمن هذا السبب في خاصيتين اثنتين:

 

أولاً : إنّ الإسلام السنّي بتاريخه الفقهيّ والعلميّ والسياسيّ  عبّر عن نفسه ضمن فضاء إمبراطوريّ تشكّل عبر دول متعاقبة ومتزامنة، امتدّت زمنيّاً وجغرافيّاً وثقافيّاً. هذا الفضاء لم يكن مغلقاً؛ بل ضمَّ طوائف متنوعة، وعاش فيه السنّة والطوائف الأخرى ضمن منطق دولة لا منطق طائفة.

 

ثانياً: إنّ الإسلام السنّي هو الإسلام المدرسيّ أي الذي أنتج في تفاعله مع هذا الفضاء الإمبراطوريّ المديد فكراً كونيّاً، وبالتالي عقلاً كونيّاً يمكن الاشتباك معه فلسفيّاً، سياسيّاً ولاهوتيّاً. بينما نجد الطوائف الباطنية تميل إلى التشكّل ضمن فضاءات مغلقة، ويُظهِر تاريخها الفكري نزوعاً إلى الانكفاء والخصوصية. وهذا يجعل الباحث، عندما يحاول دراسة «الطائفية العلوية» مثلاً، لا «الطائفة العلوية» فحسب، يصطدم بفقر شديد في المواد والنصوص والأفكار التي تتيح كتابة نقد أو تحليل غنيّ ومفتوح على السياقات الكبرى للفكر والسياسة والدولة ، والحقيقة سيكون الباحث محظوظاً إن لم يقع في دوامة من أفكار ومعتقدات باطنية، لا تتوفر حتى على “عالمية الفكر الصوفي” في السياق السني العام .

 

فهذا النقص في الإنتاج الفكريّ الكونيّ للطوائف الباطنية هو ما يعزِّز انحياز الباحثين إلى تناول الإسلام السنّي والتركيز عليه كنقطة انطلاق أو عودة للنقاش الطائفي.

 

حتى الشيعة الإمامية، ورغم أنّ تجربتهم شكّلت حالةً إمبراطورية موازية وانتجت فكراً فلسفياً ولاهوتياً كونياً ، إلا أنها لم تنفصل عن مركزية باطنيتها المؤسسة في فكرة الإمام وشخصه، وهي مركزيةٌ تحتكم إلى مظلومية تكوينيّة، لا إلى إنتاج دولة وفكر عالميّ مفتوح. فالإمام، حتى القرن العاشر، لم يكن فقيهاً -لاهوتياً، بل مصدرَ معرفة روحية فوق طبيعية. ويُعرَّف أحياناً بأنّه «العتبة التي من خلالها يتواصل الله مع مخلوقاته»، أي ضرورة كوزمولوجية ، ومفتاحٌ لاقتصادٍ كونيٍّ للمقدَّس، حيث لا معنى للظاهر من دون الباطن.

 

الإمامية المبكرة هي عقيدةٌ باطنيّة؛ تاريخيّاً هي بدايةُ الباطنية في الإسلام، حيث نجد عقيدة تكريسية صوفية غامضةً. هذا يعني أنّ الإسلام السنّي بدأ بالتفلسف العمليّ (نشوء مدارس الفقه والعلم) قبل أن ينشغل بقضايا فلسفية لاهوتية، وقبل أن تلابسه أفكار باطنية أو صوفية. بينما الإسلام الشيعي، على العكس من ذلك ،بدأ كمعرفة روحية باطنية، ثم طور لاحقاً لاهوتاً وفقهًا. هذا الاختلاف في التكوين التاريخيّ والمعرفيّ يفسّر إلى حدّ بعيد لماذا يبدو الإسلام السنّي أكثر قابليةً للنقد في النقاشات الطائفية، ولماذا يُستهدَف بشكل تفضيليّ.

 

إنّ معيار الأكثرية والأقلية العددية لا يكفي هنا لفهم التحيز؛ دون ربطه بعاملين أساسيّين: أوّلاً، التاريخ السياسيُّ الإمبراطوريُّ (قوّةٌ لإنتاج الدولة لا الطائفة)، وثانياً، التاريخ اللاهوتيُّ والفقهيُّ (قوّةٌ لإنتاج فكرٍ كونيٍّ لا مجرّد طقوس روحية). وهذا ما يجعل الإسلام السنّي هدفًا مفضّلًا للنقد ، في حين تبقى الطوائف الباطنية مُحصَّنةً ـ ولو جزئيًّا ـ بسبب فقرها في المادة الفكرية والانغلاق التاريخيّ لتجربتها.

 

 

بالتالي لن تجد أحداً يشغل نفسه بالعمق الفكريّ الدينيّ لطائفية هذه الطائفة أو تلك الباطنية في تناول مواضيع الدولة والسياسة واللاهوت والقانون. فهذه الطوائف الباطنية، في أحسن الأحوال، تُقارَب سيكولوجيّاً، أي بوصفها مظلومية ثورية كانت أم سلمية خاضعة؛ أعني مقاربة من منظور علمانيّ أو علميّ.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…
تصعد تركيا ضد إسرائيل عبر مقاطعة تجارية ودبلوماسية نشطة ودعم قانوني دولي، كما تعزز نفوذها الإنساني والجيوسياسي وتدفع نحو إقامة…

القائمة