إصلاح القطاع الأمني في سوريا نحو حوكمة رشيدة وأمن إنساني

يشكل إصلاح القطاع الأمني أحد المرتكزات الجوهرية في عملية الانتقال السياسي وبناء الدولة الحديثة، إذ يعبر عن التحول من منطق السيطرة إلى منطق الخدمة العامة وصون الأمن الإنساني، ويهدف هذا التحليل إلى تفكيك مظاهر الخلل البنيوي في المنظومة الأمنية السورية وطرح أسس إصلاحها التشريعي والمؤسسي.

 

  1. مظاهر الخلل والفساد في المجال الأمني

 

يظهر التحليل النظري في دراسات إصلاح القطاع الأمني أن الخلل البنيوي في الأنظمة السلطوية لا يرتبط فقط بالممارسة، بل بالتصور المفاهيمي للأمن ذاته، إذ يُختزل الأمن في بقاء النظام السياسي بدل تحقيق “الأمن الإنساني” (Human Security)، ومن أبرز المظاهر التي أفرزها النظام السابق:

 

أ. تآكل مبدأ الحياد المؤسسي، نتيجة خضوع الأجهزة الأمنية لمنطق الولاء السياسي لا لمقتضيات الدولة الحديثة.

 

ب. غياب الرقابة التشريعية والقضائية المنظمة، مما جعل الأجهزة تشتغل ككيانات فوق القانون.

 

ج. الفساد الوظيفي وهيمنة الامتيازات الفردية، وهو ما عمّق الانقسام الداخلي وضعف المهنية.

 

د. تآكل الثقة بين المواطن والجهاز الأمني، مما أفقد الدولة شرعيتها الوقائية.

 

إن التنظير الأكاديمي هنا يستدعي إدراج مفهوم “الحوكمة الأمنية الرشيدة” (Security Governance) بوصفه الإطار الذي يعيد تعريف وظيفة الأمن في الدولة الحديثة.

 

  1. الملفات التشريعية ذات الأولوية:

 

تؤكد الأدبيات الأكاديمية أن الإصلاح الأمني الناجح يتطلب إطاراً قانونياً مؤسساً على الشفافية والمساءلة، ومن أهم الملفات:

 

أ. قانون شامل لتنظيم القطاع الأمني يضبط التوازن بين السلطة التنفيذية والرقابة المدنية، وفق ما يطرحه “Bayley” في نظريته حول الشرطة الديمقراطية.

 

ب. تشريع قانون للأمن القومي يحدد المفاهيم بوضوح، ويمنع التداخل بين الأجهزة ويؤسس لمبدأ وحدة القيادة.

 

ج. قانون لحماية البيانات والاستخبارات الرقمية، استجابة لتحديات “الأمن السيبراني” بوصفه بعداً متنامياً في مفهوم الأمن الوطني.

 

د. وضع إطار تشريعي للرقابة متعددة المستويات (برلمانية، قضائية، مجتمعية) لضمان مساءلة حقيقية.

 

إن تجاهل هذه الملفات يعمّق هشاشة الدولة ويؤخر الانتقال نحو نموذج أمني حديث قائم على القانون والمؤسسات.

 

 

  1. التحديات النظرية والعملية في عملية الإصلاح:

 

أ. غياب الرؤية المفاهيمية الواضحة لماهية “الإصلاح الأمني”، إذ يُختزل غالباً في إعادة الهيكلة دون إعادة تعريف وظيفة الأمن.

 

ب. ضعف القدرات المعرفية والمؤسساتية لدى الكوادر الأمنية والمدنية المعنية بالإصلاح، مما ينتج فجوة بين الخطاب التشريعي والتطبيق العملي.

 

ج. مقاومة التغيير من قبل القوى المتضررة من التحول، وهي ظاهرة تفسرها أدبيات “الاستمرارية البيروقراطية” (Bureaucratic Inertia).

 

د. افتقار عملية الإصلاح إلى الاحترازات الأكاديمية الأساسية، مثل تقييم الأثر التشريعي (Legislative Impact Assessment) والتجريب المؤسسي قبل التطبيق الشامل، ما يجعل التشريعات الجديدة عرضة للفشل أو التسييس.

 

  1.   تصور شكل ومستقبل المجال الأمني بعد الإصلاح:

 

يجب أن يبنى التصور المستقبلي على “الأمن الديمقراطي” (Democratic Security) الذي يدمج بين الشرعية القانونية والفعالية الميدانية، ويقتضي ذلك تأسيس منظومة أمنية مهنية تخضع للمساءلة، وتعمل وفق سياسات أمنية معلنة وخاضعة للتدقيق البرلماني والمجتمعي.

ويحترز أكاديمياً من ثلاث نقاط ضعف رئيسة:

 

أ. تحويل الإصلاح إلى عملية شكلية دون تغيير الثقافة الأمنية.

 

ب. الإفراط في الاعتماد على الدعم الدولي دون بناء قدرة وطنية مستدامة.

 

ج. غياب مؤشرات الأداء الأمني التي يمكن من خلالها تقييم التحول المؤسسي.

 

إن مستقبل الأمن في سورية بعد الإصلاح التشريعي يتوقف على مدى قدرة الدولة على الانتقال من “الأمن السلطوي” إلى “الأمن القائم على الشرعية”، وهو تحول لا يتحقق إلا بترسيخ القاعدة القانونية والمؤسسية للحوكمة الأمنية.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…

القائمة