حوار مع البرفسور حسام الدين أناتش حول موقف تركيا من الأوضاع في غزة وسوريا، واستراتيجياتها في إدارة الصراعات الإقليمية وحماية مصالحها.
1- الرئيس رجب طيب أردوغان أعلن أن تركيا لن تسمح بتفكك سوريا، وبالنظر إلى حالة عدم الاستقرار الراهنة في سوريا، وموقعها الجغرافي الحساس في الجنوب، وغياب سلطة الدولة فعلياً،
إلى أي مدى يمكن اعتبار مثل هذه الاستراتيجية الواقعية بالنسبة لتركيا؟ وما هي المخاطر والتناقضات التي قد تخلقها هذه السياسة داخل تركيا؟
ترى تركيا أن الوضع في سوريا ضروري للحفاظ على الاستقرار ووحدة البلاد، أي تقسيم أو تفكك، أو تحويل سوريا إلى كيانات ذات حكم خاص ولا مركزية، سيشكل تهديداً مباشراً لجهود أنقرة في مواجهة حزب العمال
الكردستاني (PKK)، الذي يدّعي تمثيل الأكراد في تركيا، كما سيقوّض محاولات إقامة منطقة خالية من الإرهاب وتطبيع الأوضاع، لذلك تؤكد تركيا أنها لن تسمح بمثل هذا السيناريو.
اتبعت أنقرة حتى الآن سياسة الصبر الاستراتيجي لأسباب رئيسية:
أولاً: دعم الحكومة المؤقتة برئاسة أحمد الشرع منذ ديسمبر 2024 إلى جانب المؤسسات القائمة بدلاً من التدخل المباشر.
ثانياً: التنسيق مع النظام الدولي والولايات المتحدة، استناداً إلى العلاقات الوثيقة بين الرئيس أردوغان والرئيس الأمريكي السابق ترامب.
لكن التطورات الأخيرة أظهرت تغيراً جذرياً، مع بدء إسرائيل عمليات انفصالية في الجنوب عبر الدروز، وامتدادها نحو الشمال الشرقي حيث ينشط حزب العمال الكردستاني ووحدات حماية الشعب في منطقة “روجافا” وهو
ما يتعارض مع اتفاق 10 مارس/آذار.
رداً على ذلك، بدأت تركيا تعزيز مواقعها الميدانية، مع دلائل واضحة على استعدادها لخيارات عسكرية إذا استدعى الموقف ذلك.
وتؤكد تركيا أن استخدام القوة سيكون الخيار الأخير بعد استنفاد جميع الوسائل الدبلوماسية، وتشير المؤشرات إلى تقدم سريع في هذا الاتجاه بعد فشل المحادثات مع الولايات المتحدة وإسرائيل، مما يجعل احتمال
شن عملية عسكرية في شمال شرق سوريا بعد تعذر اندماج الـPKK السوري أمراً مرجحاً.
2- كيف تقيّم ردود فعل تركيا والدول العربية الأخرى على هذه التطورات؟ وهل يمكن القول إن أنقرة تستغل هذه الأزمة لاستعادة زمام المبادرة الدبلوماسية في المنطقة؟
في هذه المنطقة شمال شرق سوريا تنشط تنظيمات الـPKK وYPG وPYD ضمن مظلة “قوات سوريا الديمقراطية (قسد)”، تبرز السعودية كأحد أهم القوى الإقليمية المؤثرة بعد إسرائيل.
وعلى عكس الاعتقاد السائد، فإن غالبية سكان المنطقة ليسوا من الأكراد، بل من العرب البدو، مما يجعل جزءاً كبيراًا من التنظيمات المسلحة تحت تأثير سعودي مباشر.
ومع ذلك فإن السعودية لا تتعاون مع تركيا في هذا الملف، ما يصعّب فصل هؤلاء البدو العرب عن هذه التنظيمات، كما أن الدول الممولة لإعادة إعمار سوريا، وهي السعودية والإمارات، تتخذ سياسات متقاربة مع إسرائيل
والولايات المتحدة، ما يعقد موقف تركيا، ومن منظوري التحليلي، يبدو أن كلا البلدين عملياً يتركان الباب مفتوحاً لاحتمالات عدة، رغم أن خطابهما الرسمي يؤكد على وحدة الأراضي السورية.
وفي المقابل، فإن تركيا لا تحظى بدعم جدي في المنطقة سوى من قطر، كما أن التحديات الاقتصادية الداخلية تحد من قدرتها على تقديم مساعدات إضافية لسوريا، ومع ذلك أعطى إيصال الغاز الأذربيجاني إلى سوريا
أنقرة موقعاً مرموقاً، ومن شأن أي عملية عسكرية حاسمة ضد هذه التنظيمات تعزيز تأثير تركيا ومكانتها في القضية السورية بشكل كبير.
3- كيف تتبنى تركيا موقفها حيال التدخل أو الامتناع عن التدخل في الصراعات المحلية بسوريا؟ وهل ثمة مخاطر من أن تتحول هذه الصراعات إلى ‘منطقة نزاع ساخنة’ على حدودها؟
حتى الآن، اتبعت تركيا سياسة عدم التدخل في الصراعات المحلية داخل سوريا، مراعية حكومة الشرع ورغبتها في الحفاظ على استقلال وسيادة البلاد.
ومع ذلك، فإن قوات الشرع تفتقر إلى القوة الكافية للسيطرة على هذه الجماعات المحلية باعتبارها قوات حكومية وليدة وجديدة، وبالمقابل لم تقدم الولايات المتحدة أي دعم ملموس خلال المفاوضات، كما كان متوقعاً.
لذلك قد تتوجه تركيا عملياً لاحتمال الانخراط في مواجهة مسلحة مفتوحة، ويظل خطر التصعيد قائماً بشكل جدي.
4- في ظل التعقيدات المرتبطة بالهجمات في سوريا ومسألة حماية الدروز، كيف توازن أنقرة بين انتقاد سياسات إسرائيل وتجنب الانجرار إلى مواجهة مباشرة؟
حتى الآن حرصت تركيا على تجنب الانخراط المباشر، معتمدة على سياسة الصبر الاستراتيجي لتفادي اندلاع صراع إقليمي واسع.
إلا أن هذا الصبر يبدو من الصعب الاستمرار فيه، في ظل تصرف إسرائيل كقوة مهيمنة تتدخل في سوريا كيفما تشاء، وتوسع نفوذها بين الدروز والأكراد وحزب العمال الكردستاني، ومع تزايد الضغوط لم تعد تركيا قادرة
على الاستمرار في سياسة التوازن السابقة، ومن المتوقع أن تكون عملية عسكرية جديدة وشيكة، قد تتطلب منها التخلي عن هذه الاستراتيجية.
5- ما الدور الذي تسعى تركيا إلى لعبه في قضية اللاجئين السوريين وعودتهم؟ وهل نيتها في أن تكون “جسراً لإعادة الاندماج” أمر واقعي قد يطبق؟ وما العقبات الداخلية والخارجية أمام ذلك؟
تسعى تركيا في المقام الأول إلى تسريع عودة اللاجئين السوريين، بهدف تمكينهم من المساهمة في إعادة بناء بلادهم ضمن إطار الدولة الجديدة، مستفيدين من الخبرات التي اكتسبوها في الخارج.
ومع ذلك تواجه هذه المبادرة تحديات كبيرة، فالأمن لم يستتب بعد في سوريا، وحكومة الشرع لا تسيطر بشكل كامل على جميع المناطق السورية، كما أن العديد من اللاجئين العائدين سيجدون مساكنهم وأراضيهم
مهدمة لا تصلح للسكن ولا العمل، وعليه تبقى مسألة إعادة إعمار البلاد شرطاً أساسياً لتمكينهم من العيش بأمان، والحصول على فرص العمل، والحفاظ على كرامتهم، وهو ما لا يتحقق إلا عبر الاستثمار الخارجي
والدعم الدولي.
6- لماذا قررت تركيا رغم موقفها التقليدي المتحفظ والداعم لحماس التأييد لدعوات بعض الدول لقبول الحركة للاتفاق؟ وهل يمثل هذا خطوة لإعادة تقييم استراتيجيتها، أم أنه مجرد مناورة
تكتيكية على الساحة الإقليمية؟
من وجهة نظري ثمة اختلافات جوهرية بين النص الذي قُدم للرئيس رجب طيب أردوغان والنص الذي نُشر في الإعلام. وقد اعترفت كل من إسرائيل والولايات المتحدة بهذا الفارق، إذ إن النص الذي نوقش خلال قمة
القادة المسلمين في واشنطن يختلف بشكل ملحوظ عن النسخة النهائية، فهو لا يتضمن أي إشارة إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة، كما أن مسألة انسحاب القوات الإسرائيلية أو الإجراءات التي ستتخذها إسرائيل
حال انسحاب حماس غير محددة بوضوح.
من وجهة نظر المراقبين، تظهر الموافقة التركية ورد حماس على عرض الاتفاق ذكاء سياسياً ومناورة مدروسة، يمكن تلخيصه في ثلاث نقاط أساسية:
مرونة محسوبة: حيث رحّبت الحركة بجوهر الخطة المتمثل في وقف الحرب وتبادل الأسرى، لكنها تجاهلت البنود الأخرى التي تمثل في حقيقتها “أحلاماً إسرائيلية مستحيلة”، مثل نزع السلاح أو القبول بتسوية نهائية
من طرف واحد، هذا يوضح حرص حماس على قبول ما يخدم الشعب الفلسطيني دون التنازل عن مصالحه الجوهرية.
التمسك بالثوابت: أكدت حماس أن الحكم في غزة شأن فلسطيني داخلي، لا تقرره إسرائيل أو الولايات المتحدة، وإنما الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية، ما يعكس الحفاظ على السيادة الوطنية ورفض الابتزاز
السياسي.
تحويل الضغط إلى فرصة: بدلاً من أن تُتهم برفض جهود السلام أو التعنت، وضعت حماس خصومها في مأزق؛ فإذا رفضت إسرائيل، فستظهر هي الطرف المعرقل أمام المجتمع الدولي.
7- في ضوء أنشطة تركيا في الجبهة السورية، ودورها في القضية الفلسطينية، وتوتر علاقاتها مع إسرائيل، كيف تقيم مكانتها في العالمين العربي والغربي؟ وهل هناك خطر من انجرارها إلى
منافسة على النفوذ الإقليمي مع إيران والسعودية ومصر؟
في الوضع الراهن ولا سيما بعد اللقاء الذي جمع الرئيس رجب طيب أردوغان بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب في البيت الأبيض، ازداد تأثير الرئيس أردوغان في الشرق الأوسط بشكل ملحوظ، في البداية واجهت تركيا
صعوبات في فرض مواقفها السياسية، وفي خلفية الاجتماعات التي عقدها القادة المسلمون حول قضية غزة، فإن جلوس أردوغان وترامب إلى الطاولة نفسها يُعتبر مؤشراً على قيادة أردوغان الإقليمية.
من هذا المنطلق تملك تركيا في المستقبل القريب فرصة للعب دور أكثر فاعلية في قضايا سوريا وغزة والشرق الأوسط عموماً، مع احتمال قوي في أن تترسخ مكانتها كقوة إقليمية رائدة.
لكن في العموم والنهج الذي تتبناه تركيا بوضوح في سياساتها الإقليمية يقوم على التعاون والتنسيق وضمان مصالح جميع الأطراف والشعوب في المنطقة فهي جزء منهم ومصلحتهم واحدة.