دور المثقّفين السوريين في إنشاء ثقافة جديدة بعد التحرير

في هذه اللحظة التاريخيّة المفصليّة التي تعيشها سوريّا بعد سنوات من القهر والابتلاء، ينهض سؤال عميق: ما الوظيفة التي ينبغي أن يضطلع بها المثقّفون في بناء ثقافةٍ جديدة ترسم معالم المرحلة المقبلة؟ إنّ الثقافة التي نترقّبها لا يمكن أن تنبت من فراغ، ولا أن تكون انعكاسًا لانفعالات عابرة، بل يجب أن تتأصّل في الوحي الذي أنار مسارات أمتنا ووجّه خطاها، وأن تتغذّى من التراث العريق لسوريّا التي كانت – على مرّ العصور – ساحةً للعلم والدعوة، وموئلًا للحضارات والرسالات.

 

الثقافة كإعادة تشكيل للوعي الجمعي:

 

من منظور اجتماعي، الثقافة هي البنية الرمزية التي تشكّل وعي الجماعة وتوجّه سلوكها. وبعد عقود من التزييف والهيمنة، أصيب الوعي العام بالخلل والتشويه. هنا يتقدّم دور المثقّف بوصفه حاملًا للمعنى وناقلًا للرسالة؛ فهو الذي يُعيد ترتيب الرموز والقيم، ويشيع روحًا جديدة تجعل الناس أقرب إلى الفهم الصحيح للواقع والمستقبل. إنّ المشروع الثقافي المنشود لا بد أن يرمّم وجدان الجماعة ويعيد الثقة بينها وبين تاريخها ورصيدها الحضاري.

 

بين الوحي والتراث: ضرورة التأصيل

 

لا غنى للمشروع الثقافي عن أساس راسخ يضمن أصالته واستمراره. وهذا الأساس هو الوحي الذي أرسى قيم العدل والرحمة والهداية، وهو التراث العلمي والروحي الذي تركه أعلام سوريّا من علماء وفقهاء ومصلحين. إنّ الجمع بين هذين المصدرين يمنح الأمة القدرة على بلورة ثقافة متوازنة، تستجيب لحاجات الناس دون أن تفقد صلتها بمقاصد الشريعة، وتستوعب تجارب الزمن من غير أن تُذيب ذاتيتها في الآخر. بهذه الروح، تُصان الهوية الإسلامية، وتُعاد إلى موقعها الطبيعي كهوية جامعة ومظلة مشتركة لأبناء المجتمع مهما تنوّعت مشاربهم.

 

المثقّف كحلقة وصل بين الأمة ورسالتها:

 

المثقّف في هذه اللحظة ليس ناقدًا سلبيًّا ولا مراقبًا على هامش الأحداث، بل هو رسولُ معنىً ومبلّغُ فكر، يربط الأمة بميراثها ويجعلها تدرك رسالتها من جديد. إنّ مهمته أن يصدّع بالحق، ويُعيد تثبيت مفاهيم العدل والشورى والكرامة التي جاءت بها الشريعة، ويدفع الناس إلى بناء حياتهم على أساس الطاعة لله والالتزام بحدوده. وبذلك يصبح المثقف خادمًا لرسالة الأمة، لا تابعًا لأهواء السلطة أو منعزلًا في أبراج التجريد.

 

تحرير العقل من الإرث المزيّف:

 

إنّ سنيّ الحكم القهري خلفت عقلًا مثقلاً بالشبهات والأوهام، وفلسفة الثقافة تحتم على المثقف أن يُطهّر الفكر من هذا العبء. فالمسألة ليست جمع كلمات ولا ترديد شعارات، وإنما تربية عقلٍ يعقل عن الله مراده ويستنير بالوحي في نظرته إلى الواقع. حين يتحرر الناس من الخطاب المزيّف، ويُفتح لهم باب التفكير الصحيح، تتولد ثقافة تصنع القوة الروحية وتبني كيانًا صلبًا، يمتزج فيه العلم بالإيمان، والفعل بالمعنى.

 

نحو أفق إسلامي جامع

 

إذا نهض المثقّفون بأمانتهم على هذا النحو، تشكّلت ثقافةٌ جديدة بعد التحرير تستمد قوتها من الوحي ورسالة الإسلام، وتستضيء بتراث سوريّا العلمي والحضاري. ستكون ثقافة توحّد أبناء الأمّة حول هويتهم الإسلامية الجامعة، وتغرس في نفوسهم الاعتزاز بالانتساب إليها، لما تحمله من قيم العدل والكرامة والاستخلاف. هذه الثقافة ليست ترفًا فكريًّا، بل مشروع بقاء ونهضة، يعيد للإنسان السوري مكانته، ويضعه من جديد في مسار الرسالة التاريخية للأمة.

 

خاتمة

 

إنّ ما بعد التحرير ليس لحظة راحة، بل ميدان امتحان. فإن لم يتصدّ المثقفون لبناء ثقافة تنبع من الوحي وتستند إلى هوية الأمة، وقع المجتمع مرة أخرى في فوضى التبعية وضياع الرسالة. أما إذا أحسنوا القيام بالمسؤولية، فسيكونون بحقّ البنّائين الأوائل لعصرٍ جديد، تُرسم فيه معالم ثقافةٍ تحيي الأمة وتفتح أمامها أبواب الشهود الحضاري.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…
تصعد تركيا ضد إسرائيل عبر مقاطعة تجارية ودبلوماسية نشطة ودعم قانوني دولي، كما تعزز نفوذها الإنساني والجيوسياسي وتدفع نحو إقامة…

القائمة