تحتاج سورية لإعادة بناء قدراتها الدفاعية؛ لتكون قادرة على تحييد التهديدات المتجددة، ولفرض سيادتها على كامل أراضيها براً وبحراُ وجواً، والمحددات التي يجب أن تتوفر لتحقيق هذه الرؤية فإن سورية بحاجة لرعاية دولية أو إقليمية، في إطار بناء قدراتها الدفاعية، لتتكيف مع طبيعة التهديدات الجديدة وتنبثق من العقيدة الأمنية والعسكرية لسورية، تتجاوز هذه الاستراتيجية الاعتماد على مفهوم الردع المتبادل، الذي كانت سورية تعتمد عليه إزاء التهديدات التي كانت تحيط بها.
فالعقيدة العسكرية هي جزء من العقدية الأمنية التي تشكلها طبيعة التهديدات ونمط التعامل معها، لذلك الدور الأمني والدور العسكري بشقيه الدفاعي والهجومي دوران تكامليان لا انفكاك بينهما، كما إن هناك ترابطا وثيقا بين أقانيم استقرار الدولة الثلاثة السياسي والأمني و الاقتصادي، والحديث عن القدرات الدفاعية والاستقرار الأمني لا يمكن دون تحديد ووضوح التهديدات لدى المدرك السياسي السوري صانع القرار، فطبيعة التهديد هي التي تنتج سياسة دفاعية أو هجومية مضادة له، كما إن عملية بناء القدرات الدفاعية تكون ضمن معادلة طبيعة التسلح للفواعل الدولية في المنظومة الإقليمية في المستوى الأول من استقراء وتتبع التهديدات في حالة استقرار المنظومة الإقليميةـ وطبيعة تسلح الفواعل ما دون الدولة في المنظومة الإقليمية في المستوى الثاني من تتبع التهديدات في حالة عدم استقرار المنظومة الإقليمية.
فلسفة حيازة القوة واستخدامها المدرسة الواقعية الدفاعية:
تشغل الواقعية الدفاعية مكانة بارزة في حقل الدراسات الأمنية حيث يعنى هذا الحقل “استكشاف الظروف التي يصبح فيها استعمال القوة ممكنا، والطرق التي يوثر بها استخدام القوة على الأفراد، والدول، والمجتمعات، والسياسات المعنية التي تتبناها الدول للاستعداد للحرب، ومنعها، أو الانخراط فيها” وقد تجاوز الواقعية الدفاعية الواقعية التقليدية عبر تقديم إطار نقدي جديد لثنائية الأمن والقوة، حيث تقوم على فكرة أن النظام الدولي ذو طبيعة فوضوية وأن الدول ليست عدوانية في جوهرها بعكس التفسير “الهوبزي” التقليدي وأن الدول لا تسعى لتعظيم القوة بل للحفاظ على مكانتها في النظام الدولي، الذي يعمل على بناء سياسات دفاعية معتدلة الغاية منها تحقيق الأمن ومنع الحرب، ولكون الحرب عوائدها وخيمية فالدولة التي تتعرض لغزو ستبادر إلى الرد بمعاقبة الطرف الغازي بهدف حماية أمنها والحفاظ على مصالحها، وهذا يعني أن التوازن الدولي يميل إلى تفضيل القدرات الدفاعية على الهجومية، كما أن أهم مبادئ الواقعية الدفاعية هو الطابع التعاوني بين الفواعل الدوليين في إطار المكاسب المطلقة لا النسبية، وهذا ما يؤكد ضرورة إشراك الفواعل الدوليين أو الإقليمين في عملية بناء القدرات الدفاعية لسورية في إطار الحفاظ على المكاسب المطلقة، وإن عملية اكتناز القوة وبناء القدرات الدفاعية هدفها غائي في تحقيق الأمن عبر امتلاك أدوات رادعة ومانعة لنشوء الحرب، وهنا يبرز مفهوم الردع كهدف غائي للسياسة الدفاعية وكجزء من الاستراتيجية الدفاعية.
استراتيجية “الردع الجماعي” الاستثمار في البعد الإقليمي:
تصلح الواقعية الدفاعية كأداة تحليل وبوصلة في صناعة السياسات الأمنية والدفاعية، وبالتحديد في دول ما بعد النزاع في ظل تغيير التهديدات التقليدية والتوجه في مسار الأمننة الشاملة، ولكونها تفسر العلاقات بين الفواعل الدوليين من منطلق تعاوني للحفاظ على المكاسب المطلقة المشتركة بين الفواعل الدوليين، فإن المدرك السوري قادر على الاستثمار في إكراهات الجغرافية في إطار الأمن الإقليمي الذي تشكل سورية وحدة جغرافيا هامة فيه والترابط بين أمن سورية الداخلي والخارجي ترابط تلازمي، فأمن دولة في إقليم وهو بالضرورة أمن الإقليم كاملا، لذلك تسعى الفواعل الدولية لاستقرار الدول؛ لكون ذلك ينعكس على أمنها بشكل مباشر، وهذا ما تفسره نظرية ” درع الفاعل الجماعي” الذي يقوم على الدور المؤثر الذي تقوم به المنظمات العالمية والإقليمية، في ردع دولة ما عن بعض الأفعال والسياسات العدوانية، ولهندسة هذه الاستراتيجية في إطار بناء القدرات الدفاعية فهذا يستلزم علاقات تعاونية مع الفواعل إقليميين الذين يمتلكون القدرة على تبني سياسات يمكنها التأثير على المدرك المعادي سواء كان فاعلا دوليا أو ما دون الدولة.
وربما هذا الدور الإقليمي يمكن أن تقوده “القوى الإقليمية” تركيا مصر دول مجلس التعاون الخليجي في المساهمة بإعادة بناء القدرات الدفاعية لسورية ولبناء استراتيجية ردع شاملة، من خلال التعاون والتخادم بالعديد من الملفات الدفاعية والأمنية والاقتصادية، انطلاقا من المشتركات والمكاسب المطلقة وللحفاظ على أمن الإقليم التي تشترك الفواعل الدولية فيها بذات الهواجس الأمنية، التي يشكل عدم الاستقرار في سورية أمنيا أهم منابعها، فبناء استراتيجية ردع وفق نظرية “ردع الفاعل الجماعي” سيشكل خطوة هامة في إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط، كما سيكون ذلك عاملا معززا من متانة “الأمن الجماعي” ليس في سياقه الإقليمي فقط، بل سيكون انعكاسه على سير الأمن الدولي، الأمر الذي يحتاج مسارا وخطوات عملية لدعم ذلك في سورية.
خطوات بناء القدرات الدفاعية:
كمقدمة ضرورية يمكن العمل عليها بناء وهيكلة القدرات الدفاعية لسورية، وتنطوي على العديد من الملفات التي يمكن التعاون فيها، حيث يجب تفعيل دور الدولة السورية وإنعاش المؤسسات من خلال ترميم البنى التحتية، وبناء تكامل تدريجي دفاعي- أمني، إعادة تفعيل النشاط الاقتصادي المشترك، تعزيز الربط السياسي والاجتماعي بين سورية ودول الإقليم وهو ما يسير بخطى هادئة، ووضع سياسات لإثراء الهوية الإقليمية، وزيادة التفاعل الدبلوماسي، وللتركيز على البعد العسكري في عملية بناء القدرات الدفاعية لا بد من تحقيق عدد من البنود:
1.تعزيز القدرات الدفاعية: من خلال بناء تسليح الجيش العربي السوري، من خلال تحديث اللوجستيات والمعدات العسكرية له، وتدريبه على استخدام التقنيات العسكرية الفعالة، التي تساعده على إدارة الجيل المتقدم من الحروب وهذا يندرج تحته:
تطوير الدفاعات الجوية: من خلال تزويد قوات الدفاع بأجيال حديثة من الدفاعات الجوية، التي يمكن ملاحقة وردع الطائرات الحديثة التي تمتلكها قوى الجو الإسرائيلي.
تطوير القدرات الصاروخية: حيث إن منح قوات الدفاع السورية منظومات من الصواريخ البالستية يمكن أن يشكل عامل ردع لإسرائيل في سورية.
2.تأهيل المنظومة الأمنية: حيث يساعد تأهيل المنظومة الأمنية على رفع الكفاءة والسوية العملية لهذه المنظمة وإدارة التنسيق الدولي والإقليمي معها بحرفية.
ختاما: لا يمكن إغفال دور سورية المحوري في الشرق الأوسط، وانعكاسات الصراع في سورية على سيرورة الأمن الدولي والإقليمي، وما شكلته أثار هذا الصراع على المنظومة الدولية والمنظومة الإقليمية، انطلاقا من هذا فإن أمن واستقرار سورية وتعافيها من أثار الحروب والصراعات، هي مسؤولية جماعية تعنى بها الدول الفاعلة إقليميا، وبناء القدرات الدفاعية لسورية بما يتماهى مع المتغير الأمني ضرورة للطبيعة الانعكاسية لأمن سورية الداخلي على المنظومتين الدولية والإقليمية.