الصين عند مفترق طرق… وسوريا الجديدة تعيد رسم خريطة التوازنات الإقليمية و الدولية

في نهاية عام 2025 الذي شهد تغييرات جذرية في الشرق الأوسط – أبرزها سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر 2024 وصعود حكومة انتقالية برئاسة أحمد الشرع – تبرز الصين كلاعب حذر يسعى لإعادة توازن نفوذه دون الاصطدام المباشر بالولايات المتحدة. زيارة وزير الخارجية السوري أسعد حسن الشيباني إلى بكين يومي 16-17 نوفمبر الجاري، ولقاؤه مع نظيره وانغ يي، ليست مجرد حدث دبلوماسي روتيني، بل تعكس تحولاً عميقاً في استراتيجية بكين تجاه المنطقة، وفي الوقت نفسه، جهود دمشق الجديدة للانفتاح متعدد الأقطاب بعد سنوات من العزلة والحرب.

 

التحديات الداخلية الصينية: إعادة ضبط النموذج الاقتصادي

 

تواجه الصين مع نهاية 2025 تباطؤاً اقتصادياً ملحوظاً بعد عقود من النمو المتسارع. أزمة العقارات المستمرة، ارتفاع البطالة بين الشباب (خاصة خريجي الجامعات)، والتحول نحو الاقتصاد الرقمي والتكنولوجيا المتقدمة، كلها تجعل بكين أكثر حساسية تجاه الضغوط الأمريكية في مجال الرقائق الإلكترونية والذكاء الاصطناعي. في هذا السياق، يصبح الشرق الأوسط – بثرواته الطاقوية وموقعه الجيوستراتيجي – ساحة حيوية لتنويع الشراكات، لكن دون المخاطرة بمواجهة عسكرية. مبادرة “الحزام والطريق” تبقى الأداة الرئيسية، لكنها تركز الآن على الاستقرار الاقتصادي بدلاً من النفوذ العسكري.

 

المنافسة الأمريكية-الصينية: حرب باردة جديدة في مرحلة انتقالية

 

مع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في يناير 2025، عادت سياسة “الاحتواء الناعم” للصين إلى الواجهة، مع تشديد القيود التكنولوجية وتعزيز التحالفات في آسيا والشرق الأوسط. بكين ترد بتعزيز وجودها الاقتصادي في مناطق حساسة، مستفيدة من الفراغ الذي خلفته التغييرات الإقليمية. سوريا الجديدة، التي زار رئيسها واشنطن مؤخراً ولندن وموسكو، تمثل فرصة “محسوبة المخاطر” لبكين: دولة مستقرة نسبياً، ذات موقع جغرافي حاسم على البحر المتوسط، وتحتاج ماسة إلى استثمارات في إعادة الإعمار.

 

سوريا ما بعد الأسد: من العزلة إلى التوازن المتعدد

 

الزيارة الصينية تأتي ضمن سلسلة تحركات دبلوماسية مكثفة لدمشق الجديدة، تشمل لقاءات مع واشنطن (رفع بعض العقوبات وتعاون أمني ضد “داعش”)، لندن (إعادة افتتاح السفارات)، وموسكو (إعادة التفاوض على القواعد العسكرية). ثلاث دلالات رئيسية للزيارة:

 

مكافحة الإرهاب كمدخل أمني مشترك:

 

أبرز ملف في المحادثات كان قضية المقاتلين الأيغور (التركستاني الإسلامي Party سابقاً). تعهد الشيباني بأن سوريا “لن تسمح بأي نشاط يهدد المصالح الصينية”، مقابل تفهم بكين لالتزامات دمشق الجديدة. هذا التقاطع يزيل “العوائق الأمنية” التي كانت تبطئ التقارب، كما ورد في بيان الخارجية الصينية.

 

إعادة الإعمار والشراكة الاقتصادية:

 

أعربت الصين عن استعدادها “للنظر بإيجابية” في المشاركة في إعادة بناء سوريا، مع التركيز على البنى التحتية، الطاقة، والتكنولوجيا. سوريا ترى في “الحزام والطريق” فرصة لربط موانئها بالشبكات الآسيوية، خاصة بعد استقرار نسبي في الجنوب وتراجع التوترات الإيرانية-الإسرائيلية.

 

توازن جيوسياسي متعدد الأقطاب:

 

دمشق ترفض العودة إلى “محاور” سابقة، وتسعى لعلاقات متوازنة مع واشنطن (أمنياً)، موسكو (عسكرياً تقليدياً)، وبكين (اقتصادياً). هذا يتناسب مع رؤية الصين لعالم “متعدد الأقطاب”، حيث تؤكد دعمها لـ”السيادة السورية” دون تدخل خارجي.

 

إذاً الخلاصة تكون في تقاطع مصالح في زمن التحولات

زيارة الشيباني إلى بكين تتجاوز الجانب البروتوكولي، إذ تمثل إعادة ضبط للعلاقات بعد دعم بكين السابق لنظام الأسد. الصين تبحث عن “نافذة آمنة” في الشرق الأوسط لتعزيز نفوذها الاقتصادي، بينما سوريا الجديدة تسعى لشركاء يساعدونها في النهوض دون شروط سياسية ثقيلة. في ظل التوترات العالمية المتصاعدة، يبدو هذا التقارب خطوة مدروسة نحو نظام دولي أكثر توازناً، حيث تكسب دمشق مساحة مناورة، وتكسب بكين حليفاً محتملاً في قلب المتوسط.

الزمن الحالي يتيح تقاطع المصالح دون التزامات قاتلة… لكن استمراره يعتمد على قدرة الطرفين على إدارة التوترات الأمنية والجيوسياسية المحيطة.

 

 

بقلم: د . مشهور سلامه

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…

القائمة