منذ إدراج سوريا على قائمة العقوبات عام 1979، ولاحقًا مع تشديد العقوبات ولاسيما في قطاع التعدين إلى شلّ الحركة الصناعية وتعطيل العوائد السيادية من الفوسفات والإسمنت وترافق ذلك مع عزل شبه كامل
للقطاع المصرفي السوري هذا العزل ساهم إلى جعل سوريا أكبر اقتصاد نقدي في المنطقة، وساعدت على نمو اقتصاد كلبتوقراطي إجرامي في الظل تغذّيه شبكات السوق السوداء، والتهريب، والتمويل غير الرسمي،
في ظل انهيار أدوات الدفع والتحويل الرسمية.
لكن نقطة التحول جاءت في ديسمبر 2024، حين سقط النظام أسد بعد أكثر من عقد من الحرب والعزلة، وسرعان ما لحقت ذلك تحولات في موقف العقوبات الدولية، أبرزها إصدار وزارة الخزانة الأميركية “الترخيص العام
رقم 24” (GL 24) في يناير 2025، والذي سمح ببعض المعاملات المحدودة مع مؤسسات حكومية، إضافة إلى التحويلات المالية الشخصية من المواطنين الأميركيين إلى داخل سوريا رغم ذلك، بقيت القيود على
التحويلات البنكية الواسعة والاستثمار الأجنبي قائمة، ما جعل هذا الانفتاح يبدو “رمزيًا” أكثر منه اقتصاديًا فعّالًا.
لاحقًا، جاء الترخيص رقم 25 (GL 25) في مايو 2025، متضمنًا توسيعًا نسبيًا في نطاق التعاملات، خاصة مع مؤسسات الحكومة الانتقالية في مشاريع إعادة الإعمار ورغم الترحيب الدولي الحذر، ظل النظام المصرفي
السوري فعليًا خارج النظام المالي العالمي حتى البنوك الغربية والعربية لا تزال مترددة في إعادة فتح القنوات مع سوريا خشية الوقوع في مخالفات تتعلق بـ”العقوبات الثانوية” ونتيجة لذلك، بقيت المعاملات النقدية هي
السائدة، فيما ظل قطاع التعدين خارج الاستثمار المؤسسي الحقيقي، رغم المؤشرات الجيولوجية المشجعة، ووجود احتياطات مؤكدة وفق تقارير هيئة الاستكشاف الجيولوجي السورية حول قطاع التعدين.
مع سقوط الأسد بدأت بعض المؤشرات الميدانية تُظهر تحسنًا جزئيًا في حركة المعدات ونشاط الحفر، خصوصًا في مناطق فوسفات خنيفيس والشرقية، إلا أن غياب القنوات التمويلية الرسمية وامتناع البنوك الغربية عن
الانخراط يعرقل أي طفرة استثمارية حقيقية فمعظم التبادلات لا تزال تتم نقدًا أو عبر وسطاء، ما يطيل أمد “الاقتصاد الموازي” ويمنع إعادة هيكلة القطاع
يرى باحثو مركز ODI البريطاني أن رفع العقوبات دفعة واحدة قد يكون محفوفًا بالمخاطر، ويدعون إلى تخفيف تدريجي ومشروط، يبدأ برفع جزئي على قطاعات الطاقة والمال، مقابل التزامات واضحة من الحكومة الانتقالية،
تشمل احترام حقوق الإنسان، وتكريس مبدأ المشاركة السياسية، ودمج الأقليات كما يشددون على ضرورة وجود آلية رقابة دولية لمتابعة الالتزام بهذه الشروط، مع إمكانية إعادة فرض العقوبات سريعًا عند الإخلال بها.
ما المطلوب لإعادة إحياء قطاع التعدين؟
من الناحية الاقتصادية، لا يمكن إحياء قطاع التعدين إلا بوجود أربعة شروط رئيسية:
1-لضمان نهوض قطاع التعدين، لا بد من معالجة القطيعة المصرفية التي تعيق الاستثمار ولذلك يجب إعادة ربط المصارف السورية بنظام SWIFT أو ببدائل إقليمية عربية مثل أنظمة ثنائية بديلة Barter أو INSTEX الذي
أنشأته فرنسا وألمانيا وبريطانيا عام 2019، كآلية للالتفاف على العقوبات الأميركية في التعامل مع إيران، وإتاحة فتح اعتمادات مستندية قانونية أي استثمار معدني كبير يتطلب خطوط تمويل بملايين الدولارات، وهذا غير
ممكن حاليًا بدون نظام مالي موثوق.
2- لا تزال شركات التعدين في سوريا تستخدم معدات تعود إلى السبعينيات لذلك يجب السماح باستيراد المعدات الثقيلة والمواد الكيميائية المستخدمة في التنقيب، وهو ما يتطلب رفع جزئي للعقوبات على الاستيراد
التقني.
3- يجب فصل قطاع التعدين عن النفوذ السياسي والأمني، وإنشاء هيئة مستقلة مكونة من أفراد من سلطة دمشق وسلكة الإدارة الذاتية تدير عمليات الترخيص الإشراف، وتوزيع العوائد بطريقة شفافة.
4-بإمكان الحكومة الانتقالية أن تبرم عقود مشاركة إنتاج مع شركات عالمية أو عربية، بحيث تكون العوائد مناصفة أو بنسبة تضمن مصلحة الدولة، وتُحفظ أموال العقود بصندوق خاص خاضع للرقابة الدولية.
دون ذلك، سيبقى الإنتاج السوري محدودًا، وضعيف القيمة، وعرضة للاستغلال السياسي أو الفساد وتبدو الفرصة متاحة وإن كانت محدودة لإعادة تأهيل قطاع التعدين كأداة للنمو الاقتصادي في سوريا ما بعد الحرب
شرط أن يرافق التخفيف التدريجي للعقوبات برنامج إصلاح حقيقي أما الاكتفاء بالرسائل الرمزية أو الرهان على التمويل غير الرسمي، فلن يؤدي إلا إلى إعادة إنتاج نفس الدوامة الاقتصادية التي أرّقت سوريا طوال العقد الماضي.
الباحث في الشؤون الاقتصادية
د. حسن المروان حراج