حين تتحول المنصات إلى متاريس
في الحروب التقليدية، يُعرّف النصر بسقوط مدينة أو جيش، أما في الحروب النفسية الحديثة، فيقاس النصر بمقدار التشويش على الوعي الجمعي، وتقويض الثقة بين الفرد ومجتمعه، وتفكيك سرديات الانتماء والهوية. فالعقل حين يُهزم، تنهار الدولة من الداخل، ولو بدت جدرانها قائمة.
اليوم، تتعرض سوريا لهجمة منظمة عبر الفضاء الرقمي، لا تستهدف مؤسساتها فقط، بل تضرب في العمق النفسي والاجتماعي، عبر ما يُعرف في الأدبيات السياسية والإعلامية بـالحرب النفسية الرقمية. هذه الحرب لا تُخاض بجيوش، بل بخوارزميات، وشائعات مغلّفة بلغة وطنية، ورسائل تنكرية تحمل “سمًّا في العسل”.
أولًا: تأطير نظري لمفهوم الحرب النفسية
تُعرّف الحرب النفسية في الأدبيات الأكاديمية بأنها: “جهد متعمد للتأثير على نفسية الأفراد أو الجماعات من خلال معلومات مختارة بعناية، بهدف تعديل اتجاهاتهم وسلوكهم بما يخدم أهدافًا استراتيجية محددة.”
وقد تطورت الحرب النفسية في العصر الرقمي لتأخذ أبعادًا أكثر تعقيدًا، حيث تتداخل مع مفاهيم مثل:
التضليل الإعلامي (Disinformation)
الهيمنة السردية (Narrative Domination)
اختراق الإدراك الجمعي (Cognitive Infiltration)
هندسة القناعات (Belief Engineering)
وكلها مفاهيم تهدف إلى زعزعة الاستقرار المجتمعي دون طلقة واحدة.
ثانيًا: النموذج السوري – السويداء كنموذج عملي
وفقًا لتصريح وزير الإعلام السوري حمزة المصطفى (2025)، فإن أكثر من 300 ألف حساب نشط يعمل بشكل منسّق على بث محتوى مضلل، بمعدل 10 آلاف حساب جديد يوميًا. الأخطر
من ذلك أن بعض هذه الحسابات تتقمص دور “صوت الدولة”، لكنها تبث رسائل تفكيكية، تُفرّق بين مكونات المجتمع وتُحبط أي شعور بالثقة أو الانتماء.
وفي الوقت الذي تنشغل فيه بعض مناطق الجنوب السوري تنشط هذه الحسابات في زرع خطاب الضحية والانقسام، وتحويل المواطن من شريك في البناء إلى متلقٍ ساخط غير منتج.
ثالثًا: أدوات الحرب النفسية الرقمية في سوريا
1. الإطار الإعلامي المشوّه (Media Framing)
تُعرض الأخبار من زوايا محددة تهدف إلى التأجيج لا التفسير، مثل استخدام صور ضحايا بصياغة توحي بالتواطؤ الرسمي، أو اقتطاع تصريح حكومي وإبرازه خارج سياقه.
2. حصان طروادة الإعلامي (Trojan Horse Technique)
الحسابات الوهمية التي تبدو مؤيدة، لكنها تُسرب خطابًا معاديًا، تُستخدم لبث أفكار مضادة بتكلفة “نفسية” أقل على المتلقي، لأن الناقد الداخلي من داخل الجماعة أكثر إقناعًا من العدو الخارجي.
3. عدوى الانفعالات (Emotional Contagion)
عبر تكرار مشاعر الغضب والخوف والإحباط، يتشكل مناخ نفسي عام ينتقل من الشاشة إلى الواقع، وهو ما يؤدي إلى تجميد الفعل الاجتماعي وتحفيز الفوضى.
4. تأثير الحقيقة الزائفة (Illusory Truth Effect)
يؤمن الناس بالكذبة لمجرد تكرارها، وخاصة في بيئة يغيب عنها الرد الرسمي الفوري أو المحتوى المضاد الذكي.
رابعًا: الأثر النفسي والاجتماعي للحرب الرقمية
من منظور علم النفس الاجتماعي، تؤثر هذه الحروب على ما يُعرف بـ”البنية التحتية المعرفية” للفرد، أي مجموعة القناعات التي تُشكل هويته وتوجهاته. وعندما تُفكك هذه البنية، يصبح
الفرد قابلًا لأن يتبنى السردية المعادية دون وعي، بل ويعمل على نشرها، ظنًا منه أنه يمارس دورًا وطنيًا.
كما تُولد الحرب النفسية ظواهر مثل:
الاغتراب الاجتماعي: حيث يشعر المواطن أنه لا ينتمي لأي جماعة.
الشلل الجمعي: إذ تتحول المجموعات من الفعل إلى التذمر فقط.
احتقار الذات الوطنية: وهو أخطر ما تصنعه الحرب النفسية، حين تُقنع الناس أن خلاصهم خارج وطنهم، لا من داخله.
خامسًا: استراتيجيات المواجهة النفسية والإعلامية
1. إطلاق مرصد وطني للحرب النفسية الرقمية، يتابع التحولات ويحلل الخطاب الإعلامي.
2. إنتاج محتوى مضاد ذكي، يعتمد الرواية العلمية لا الخطاب الإنشائي.
3. تدريب المؤثرين المحليين (خطباء، معلمين، ناشطين) على تفكيك الشائعات باستخدام لغة الناس.
4. تعزيز مناهج التفكير النقدي والإعلامي في المدارس والجامعات.
5. فك الحصار التقني عبر بناء شراكات رقمية مستقلة تمكّن من توصيل الصوت الوطني.
خاتمة: الحرب الآن على العقول لا على الحدود
قال تعالى: {ولتعرفنهم في لحن القول} [محمد:30]
فالحرب النفسية الحديثة، أخطر ما فيها أنها تتكلم بلسانك، وتبكي بأوجاعك، لكنها تُفرغك من داخلك.
الرد لا يكون بالعنف، بل بالتماسك والوعي والثقة الجماعية، لأنها الحرب التي إذا خسرناها، خسرنا كل شيء… دون طلقة واحدة.
د. دعوة الأحدب
الباحثة في علم النفس الاجتماعي