في شرق سوريا، يتقاطع المحلي بالإقليمي حيث لا يمكن فصل اعتبارات السلطة على الأرض عن معادلات الأمن العابر للحدود ولا عن توازنات المجتمع الأهلي الذي يشكّل قاعدة الشرعية الفعلية لأي طرف فاعل. في
هذه البيئة، تتحرك القوى الرئيسية وفق قواعد اشتباك منخفضة الشدة، تتيح الاحتفاظ بمكاسب ميدانية مع إبقاء قنوات التفاوض مفتوحة، في لعبة توازن دقيقة تشبه السير على البيض .
منذ توقيع اتفاق 10 آذار، تعاملت «قسد» معه ليس كخطوة نحو تسوية شاملة، بل كأداة تأجيل تكتيكي لشراء الوقت وترسيخ نموذجها اللامركزي، معتمدة على القرار الأممي 2254 كغطاء قانوني وخطابي يضفي على
بنيتها الإدارية طابع المسار الانتقالي المشروع. الهدف المعلن هو الإدارة المحلية واسعة الصلاحيات، لكن الهدف الأعمق هو انتزاع اعتراف سياسي يوازي شرعية الدولة. وفي حين ترفع خطاب الحوار، فإنها تواصل تعزيز
حضورها الميداني عبر آليات الإدارة، والتجنيد، والضبط الأمني، لضمان مركز ثقل محلي حتى في فترات التهدئة. إلا أن هذا النهج يفقد فعاليته تدريجيًا كلما تمكنت دمشق من اختراق المشهد الأهلي، وإيجاد قنوات تمثيل بديلة تضعف احتكار «قسد» للشرعية المحلية.
دمشق .. استعادة المركزية عبر العشائر والخدمات :
تراهن دمشق على تحويل الزخم الاجتماعي إلى قوة سيادية صلبة، وذلك بإسناد دور فعلي للعشائر في هياكل الحكم المحلي بصيغ واضحة الصلاحيات، وربط ذلك بمعالجة مطالب خدمية وأمنية عبر قنوات الدولة، بما
يغلق الباب أمام وساطات غير رسمية. أمنيًا، تعتمد نهج الضغط التراكمي عبر عمليات محدودة ومنضبطة بالتنسيق بين الجيش السوري وتشكيلات محلية، لتفكيك عقد «قسد» الإدارية والأمنية دون الانزلاق إلى مواجهة
شاملة قد تخلق فراغًا يصعب ضبطه. ويوازي هذا العمل الميداني خطاب سياسي متزن يجمع بين الحزم القانوني وطمأنة المجتمع، ويقدّم إعادة المركزية كضمانة للاستقرار الأهلي.
أما أنقرة، فترى في المشهد فرصة لضرب ثلاثة عصافير بحجر واحد: القضاء على البنية الأمنية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني عبر الحدود، منع قيام كيان كردي موازٍ قد ينعكس على الداخل التركي، وتحقيق مكاسب
سياسية وأمنية قبل استحقاقات انتخابية. وفي هذا الإطار، تُبدي دمشق براغماتية في فتح قنوات اتصال عملية مع أنقرة على قاعدة “التدمير المتبادل للتهديدات”، بما يسمح بتنسيق ميداني ضد «قسد» دون الدخول
في التزامات سياسية تتجاوز هذا الهدف المحدود.
المسارات المتوقعة ، من التعبئة إلى الدمج :
قصير المدى: تعبئة عشائرية منظمة، تفعيل الهياكل المحلية، بناء شبكات وساطة رسمية، وإطلاق رسائل طمأنة متكررة لإضعاف الشرعية الأهلية التي تبنيها «قسد».
متوسط المدى: تفكيك إداري وأمني منسق مع الفاعلين المحليين، ومع أنقرة عند الحاجة، لاستهداف العقد الحساسة في القيادة والسيطرة والتجنيد والإدارة.
طويل المدى: دمج مؤسسي للعشائر في هياكل الدولة، رفع كفاءة الإدارة المحلية، وإعادة مركزية القرار ضمن إطار قانوني يضمن الاستقرار.
السيناريوهات :
المرجّح: انكماش تدريجي في نفوذ «قسد» بفعل الضغط العشائري–السياسي والعملياتي الخارجي، يعيد توزيع السلطة لصالح الدولة المركزية.
البديل: إطالة أمد الصراع إذا صعّد الأمريكيون تدخلهم، ما يمنح «قسد» شرايين بقاء ويحوّل المشهد إلى استنزاف منخفض الشدة.
الأضعف: ارتداد محلي نتيجة سوء إدارة العلاقة مع بعض المكونات، ويمكن الحد منه بالشفافية وإدارة الاتصال المجتمعي بذكاء.
مؤشرات القياس :
ارتفاع معدلات الامتثال للخدمات والقانون ضمن قنوات الدولة، تراجع الطلب على الوساطات غير الرسمية، ضعف قدرة «قسد» على التعبئة والتجنيد، تشتت قنوات قيادتها، وتحقيق أثر نوعي من العمليات المحدودة. إلى
جانب ذلك، يبقى رصد تذبذب العلاقة التركية–الأمريكية عنصرًا أساسيًا، إذ ينعكس مباشرة على وتيرة تفكيك نفوذ «قسد».
الخلاصة :
المعادلة التي تحاول دمشق ضبطها تقوم على ثلاث ركائز: تمثيل عشائري مضبوط الصلاحيات، ضغط عملياتي محسوب، وبراغماتية منفتحة مع أنقرة ضمن حدود الهدف التكتيكي. نجاح هذه المعادلة مرهون بدقة
التوقيت، ووضوح الرسائل، وتقديم مكاسب ملموسة للمجتمع المحلي، مع تحويل القرار 2254 إلى إطار وطني بقيادة الدولة، وتوثيق الدروس المستفادة لبناء ذاكرة مؤسسية تحدّث قواعد التشغيل باستمرار. إذا أُحسن
تنفيذ هذه الخطة، يمكن لدمشق أن تضيق هوامش مناورة «قسد» وتعيد مركزية القرار تدريجيًا، في مسار هادئ لكنه حاسم .