ثلاثة اختلالات وتشوهات جوهرية تتجاهلها الإدارة الحالية في ملف العملة، منذ سقوط نظام أسد ما تزال إدارة الملف النقدي تتسم بقدر كبير من الارتباك وغياب إطار استراتيجي نقدي متكامل يضاف إليها تصريحات
متناقضة وغير رسمية تزيد من حالة عدم اليقين النقدي ورغم أن الإصلاح النقدي بطبيعته عملية تدريجية وطويلة الأمد فإن تجاهل مجموعة من الاختلالات الجوهرية سيؤدي إلى تعميق التشوهات في السياسة النقدية بدلًا من معالجتها:
الاختلال الأول : فقدت الليرة السورية ارتباطها الطبيعي بالجهاز الاقتصادي والصناعي في الدولة وأصبحت قيمتها مرهونة بالتوازنات والخطاب السياسي خصوصًا حين يتعلق الخطاب بالعقوبات الاقتصادية هذا الانفصال بين العملة والاقتصاد
يعكس عمق الأزمة النقدية ويجعل أي إجراءات شكلية غير قادرة على إعادة الثقة.
أما الاختلال الثاني: يتمثل في ان معظم التعاملات التجارية للتجار السوريين في السوق المحلي والدولي تُسعّر وتُنفّذ بالدولار الأمريكي وهو ما يعكس عملية (دولرة) واسعة النطاق هذا الواقع ألغى عمليًا دور الليرة كوسيط للتبادل ومخزن
للقيمة وأدى إلى فقدانها أهم وظائفها النقدية.
أما على مستوى البنية المركزية للتعامل النقدي فيظهر الاختلال الثالث: في تعدد السلطات والتعاملات النقدية داخل البلاد حيث تُدار السياسة النقدية حاليًا من خلال سلطات مختلفة تبعًا لجهة السيطرة على كل منطقة، ما أدى إلى
غياب مرجعية نقدية موحدة وتفاقم التشوهات السعرية وتضارب أدوات السياسة المالية وبدون توحيد السياسة النقدية لن يكون لأي إصلاح نقدي أثر ملموس وأي مقاربة إصلاحية تُطرح اليوم ستظل محدودة النتائج ما لم تُعالج هذه
الاختلالات البنيوية أولًا، بوصفها المدخل الضروري لإرساء سياسة نقدية متماسكة وفعّالة.
ما جدوى حذف صفرين في العملة وانعكاساته على السياسة النقدية السورية؟
رغم طرح خيار الحذف كإحدى الأدوات النقدية الممكنة إلا أن تقييمه في الحالة السورية يكشف عن مجموعة من المخاطر والآثار السلبية المحتملة:
1- نجاح أي عملية حذف للأصفار من العملة مرهون بوجود جهاز إنتاجي قوي قادر على دعم قيمتها وتعزيز الثقة بها، غير أن الواقع السوري يكشف عن ضعف حاد في القطاعات الصناعية والزراعية، ما يعني أن العملة الجديدة ستفتقر إلى قاعدة اقتصادية حقيقية تستند إليها، وبغياب هذا السند الإنتاجي، تتحول خطوة حذف الأصفار إلى مجرد إجراء شكلي لا يغيّر من جوهر الأزمة النقدية، بل قد يفاقمها.
2- بدلًا من كبح التضخم قد يؤدي حذف الأصفار إلى تضخم أعنف يرتبط التضخم في سوريا بجملة من الأسباب البنيوية ومزيج من عوامل داخلية (تدمير القدرات الإنتاجية ، التمويل بالعجز، فقدان الثقة بالعملة السورية) وعوامل خارجية
(العقوبات، الاعتماد على الاستيراد) فقد أدت سنوات الحرب إلى تدمير واسع للبنية التحتية الزراعية والصناعية، الأمر الذي تسبب في تراجع حاد في الطاقة الإنتاجية وتوقف العديد من المصانع والمشاريع الزراعية، وهو ما انعكس على
انخفاض العرض المحلي بكل السلع الأساسية و مع انهيار الإنتاج المحلي أصبح الاقتصاد المحلي يعتمد بشكل متزايد على الواردات وهو ما جعل الأسعار مرتبطة مباشرة بالدولار الأمريكي ، تشير أحدث البيانات لعام 2025 إلى أن سوريا ما تزال تعاني من تضخم حاد رغم بعض التراجع النسبي في الأشهر الأخيرة؛ إذ انخفض المعدل السنوي للتضخم من نحو 119٪ في عام 2023 إلى حوالي 46.7٪ بنهاية يناير 2025، مع تسجيل معدلات شهرية متذبذبة بلغت 22.7٪ في يناير
وتراجعت إلى 15.9٪ في فبراير ورغم أن هذه الأرقام تعكس ابتعاد الاقتصاد عن عتبة (التضخم الجامح) بالمعنى الفني إلا أنها تكشف في الوقت نفسه عن اختلالات عميقة في
السياسة النقدية والمالية وبالتالي فإن طرح خيار حذف صفرين من العملة لا يعدو أن يكون معالجة شكلية لمعضلة هيكلية؛ فالمشكلة لا تكمن في كبر حجم الأرقام وإنما في فقدان
الثقة بالعملة والنظام المالي وفي غياب قاعدة إنتاجية قادرة على دعم الاستقرار النقدي ومن المرجح أن يؤدي إلى تسريع موجات جديدة من التضخم بدلاً من احتوائها بل وقد يعجّل
بالانتقال إلى تضخم جامح إذا فُسِّر من قبل المجتمع على أنه اعتراف بانهيار وشيك لليرة السورية.
3- إعادة تقييم العملة قد تسمح لبعض الجهات الاقتصادية بشراء أو استئجار المؤسسات المملوكة للدولة مثل الأوقاف واملاك حزب البعث سابقا والمقيمة بالليرة معروضة
بأثمان زهيدة بعد التحويل الاسمي، هذا يعني أن جهات اقتصادية ذات سيولة أو نفوذ يمكنها الاستحواذ على المؤسسات بأسعار أقل بكثير من قيمتها الحقيقية في حين يُحرم المجتمع
من عوائد هذه الأصول على المدى الطويل ، في روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفيتي (التسعينيات)، أدت إعادة التقييم النقدي وتحرير الأسعار إلى بيع عدد كبير من مؤسسات
الدولة الصناعية والطاقية بأسعار متدنية جدًا فيما عُرف لاحقًا بـ (خصخصة القسائم) حيث استحوذت أقلية من رجال الأعمال والمستثمرين المتنفذين على أصول استراتيجية بأثمان
بخسة مما أنتج طبقة من (الأوليغارشية) وعمّق الفجوة الاجتماعية.
4- تشوّه هيكل الأسعار في الدولة خاصة فالعقود طويلة الأجل المبرمة بالعملة المحلية مثل (الإيجارات والرواتب والديون) ستحتاج إلى إعادة حساب شاملة، وهو ما يفتح المجال أمام نزاعات قانونية واقتصادية وأي اضطراب في عملية التسعير سيُترجم مباشرة إلى هروب أكبر نحو الدولار والذهب
5- عرقلة الاستثمار فعلى المستوى العملي يؤدي غياب استقرار الأسعار إلى جعل المستثمرين غير قادرين على التنبؤ بتكاليف الإنتاج أو تحديد هوامش الربح وهو ما يقلل من رغبتهم في ضخ رؤوس أموال جديدة.
6- تشير التقديرات إلى أن حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج القنوات المصرفية يصل إلى نحو 40 تريليون ليرة سورية (Reuters, 2025) وفي حال أقدم المصرف المركزي على إصدار عملة جديدة واستبدال القديمة، فإن الأوراق النقدية
المحتفظ بها خارج النظام المصرفي ستفقد قيمتها عند انتهاء فترة الاستبدال، وهو ما يولد جملة من الآثار الاقتصادية والاجتماعية.
- اقتصادياً، توسيع السوق السوداء من المتوقع أن يؤدي الخوف من فقدان القيمة إلى زيادة سرعة التداول النقدي، حيث يسعى الأفراد إلى التخلص من الليرة بأي ثمن وتحويلها إلى أصول بديلة أكثر أمانًا مثل الدولار أو الذهب أو السلع
القابلة للتخزين هذا السلوك يرفع مستوى الطلب على العملات الأجنبية ما ينتج عنه ضغوط إضافية على سعر الصرف، ونقص في السلع، وارتفاع في معدلات التضخم.
- اجتماعياً، فإن الأثر سيكون أشد على الفئات ذات الدخل المحدود والطبقة الوسطى التي تعتمد على الليرة في تعاملاتها اليومية وتحتفظ بمدخراتها نقدًا خارج البنوك فقدان هذه المدخرات لقيمتها في حال عدم استبدالها
ضمن المدة المحددة يعني نقل عبء الإصلاح النقدي إلى هذه الشرائح وهو ما قد يخلق حالة من الصدمات الاجتماعية ويدفع نحو مزيد من انعدام الثقة بالدولة
زوايا تقنية في تحديات حذف الأصفار من العملة:
تكلفة طباعة العملة ونقلها واستبدالها:
تشير التقديرات بنك التسويات الدولية (BIS -Bank for International Settlements ) إلى أن استبدال السلسلة النقدية السورية بشكل كامل قد تصل كلفته إلى ما بين 150 و200 مليون دولار أمريكي، أي ما يعادل تقريبًا 2.5 – 3.3
تريليون ليرة سورية وفق سعر الصرف الموازي (2025) ولا تقتصر هذه الكلفة على عملية الطباعة وحدها، والتي تقدر بحوالي 100 مليون دولار لطباعة نحو مليار ورقة نقدية، بل تشمل أيضًا نفقات النقل الدولي الآمن والتي قد تصل إلى 15
مليون دولار، إضافة إلى أقساط التأمين على الشحنات النقدية المقدرة بحوالي 1.5 مليون دولار. كما تتطلب عملية التوزيع المحلي إلى البنوك والفروع وتجهيز الأنظمة المصرفية نحو 40 مليون دولار، في حين تبلغ كلفة إتلاف العملة القديمة
عبر آلات التقطيع والضغط الخاصة قرابة 15 مليون دولار. وبهذا، فإن مشروع حذف صفرين وإعادة إصدار العملة الجديدة سيشكّل عبئًا ماليًا ضخمًا على اقتصاد يعاني أصلًا من عجز مالي مزمن ونقص شديد في العملات الأجنبية، مما يجعل
توجيه هذه الموارد إلى دعم القطاعات الإنتاجية أو تمويل استيراد السلع الأساسية خيارًا أكثر جدوى من الناحية الاقتصادية طبعا هذه الأرقام تقديرية لأنها مبنية على تجارب دولية سابقة، حتى لا يُفهم أنها إحصاء رسمي سوري استبدال
السلسلة النقدية يعد تكلفة هائلة بالنسبة لاقتصاد يعاني من عجز مزمن وموارد محدودة من العملات الأجنبية. من منظور كفاءة اقتصادية، هذه الموارد لو استُثمرت في إحياء الإنتاج الزراعي والصناعي أو تمويل استيراد السلع
الأساسية لكانت عوائدها أعلى بكثير من مجرد إجراء شكلي مثل حذف صفرين.
تصميم الرمزية الاجتماعية للعملة:
إصدار أي عملة جديدة يبدأ من مرحلة التصميم التي لا تقتصر على الجانب الجمالي أو الفني، بل تشمل الرموز والدلالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تحملها واختيار الصور والشعارات ليس أمرًا ثانويًا، بل يُترجم هوية الدولة
ومصداقيتها وكما هو معلوم في سوريا حيث يسود انقسام سياسي وجغرافي وأي رمز يوضع على العملة قد يثير جدلًا ويؤدي إلى ضعف قبولها في بعض المناطق وغياب التوافق حول (رمزية العملة) يعني أنها قد تفشل في أداء دورها كأداة
موحدة للتبادل مما يزيد من الانقسام النقدي بدل توحيده
نوعية الورق (القطن مقابل الكتان):
تُصنع العملة السورية الحالية من (ورق قطني تقليدي) يتمتع بدرجة مقبولة من الأمان لكنه سريع التلف نسبيًا ويستلزم الاستبدال الدوري ما يرفع التكاليف التشغيلية على المدى الطويل ومن هنا يبرز التساؤل: هل سيكون الإصدار الجديد
قائمًا على (خليط من الكتان) أو على (ورق هجين يجمع بين القطن ومادة بوليمرية) رغم ارتفاع تكلفته مقارنة بالورق القطني؟ وهل تستطيع سوريا في ظل محدودية مواردها المالية وعجزها عن تمويل نفقاتها الأساسية تحمّل هذه الزيادة في التكلفة دون أن ينعكس ذلك سلبًا على الميزانية العامة واستقرارها النقدي؟
إن المخاطرة تكمن في أن أي زيادة في كلفة الطباعة إذا لم تُدار بحذر ستضغط على المالية العامة وتزيد من هشاشة الوضع النقدي، كما أن نجاح هذا الخيار لا يرتبط بالتكلفة، بل أيضًا بدرجة قبول المجتمع للعملة الجديدة؛ إذ أن اختيار
نوعية الورق يرتبط ارتباطًا مباشرًا بمستوى الثقة، فإذا شعر المواطن أن العملة رديئة أو سريعة التلف فسيتراجع الاستعداد للتعامل بها ما يضعف من فعاليتها كوسيط للتبادل ومخزن للقيمة.
مقاسات وحجم العملة:
إصدار عملة جديدة يتطلب قرارات دقيقة بشأن المقاسات أي تغيير في هذه الجوانب يؤدي إلى تكاليف إضافية على المصارف، المتاجر، ومحلات الصرافة والأنظمة المحاسبية التي تحتاج إلى إعادة معايرة أجهزة الفرز والصراف الآلي وآلات
العد هذا يعني ارتفاع التكاليف التشغيلية للنظام المالي بأكمله ما يزيد من عبء الإصلاح النقدي دون تحقيق فائدة مقابلة.
كلفة الطباعة والوقت:
طباعة العملة ليست عملية فنية فقط بل عملية اقتصادية مكلفة للغاية تحتاج إلى تعاقد مع شركات دولية متخصصة لطباعة أوراق ذات جودة عالية وعلامات أمان حديثة هذه العملية تحتاج إلى عملة صعبة علاوة على ذلك تستغرق العملية
شهورًا ما يعني أن السوق ستبقى في حالة عدم يقين لفترة طويلة وهذا كفيل بتسريع التضخم بدل احتوائه.
الإيجابيات المحتملة لحذف صفرين من العملة:
رغم أن حذف الصفرين لا يُعد حلًا جذريًا للأزمة النقدية، إلا أن بعض الأطراف تشير إلى وجود جوانب إيجابية محدودة لهذه الخطوة يمكن تلخيصها فيما يلي:
1- الدلالات السياسية قد يُستخدم الإصدار الجديد كأداة سياسية لإظهار القطيعة مع المرحلة السابقة التي ارتبطت باسم وصور بشار الأسد وحافظ الأسد على العملة السورية، إلغاء هذه الرموز يحمل رسالة سياسية موجهة للداخل والخارج بأن هناك محاولة لفتح صفحة جديدة حتى وإن كانت الخطوة ذات بعد شكلي أكثر من كونها إصلاحًا اقتصاديًا حقيقيًا ويمكن أن تُسهم العملة الجديدة في إعادة بناء جزء من الشرعية السياسية أو على الأقل في إيصال خطاب رمزي حول التغيير.
2- تبسيط العمليات المحاسبية والمالية
تضخم الأرقام الناتج عن تدهور قيمة العملة يجعل المعاملات التجارية والمحاسبية معقدة سواء على مستوى الأفراد أو المؤسسات حذف صفرين يقلل حجم الأرقام في الدفاتر والأنظمة المحاسبية ما يُسهل عمليات الحساب والتقارير المالية وقد يساعد هذا الإجراء على تخفيف الضغط على الأنظمة الإلكترونية ونظم الفوترة والفواتير الحكومية حيث يصبح تسجيل البيانات أبسط وأقل عرضة للأخطاء طبعا هذا الأثر يظل محصورًا في الجانب الفني والتنظيمي دون أن يغيّر من قيمة العملة أو يعالج التضخم الفعلي.
3- تغيير العملة يساهم في إبطال مفعول الكتلة النقدية الكبيرة التي تم تهريبها إلى الخارج أو احتكارها من قبل فلول النظام السابق، ما يقلل من قدرتهم على التحكم بسعر الصرف والسوق السوداء، ويعيد جزءًا من التوازن النقدي عبر تقليص شح السيولة في البنوك السورية.
4- تعزيز الشفافية المالية ومكافحة غسل الأموال كون إصدار عملة جديدة يفتح المجال أمام تطبيق ضوابط أكثر صرامة في عمليات الاستبدال، مثل اشتراط إثبات مصدر الأموال في المعاملات ذات القيمة العالية، الأمر الذي يعزز الشفافية المالية ويحد من تداول الأموال غير المشروعة.
حذف صفرين من الليرة السورية قد يمنح دلالات رمزية ويُبسط العمليات المحاسبية، لكنه يظل خطوة شكلية ما لم تُعالج الاختلالات البنيوية في الاقتصاد فالاستقرار النقدي لن يتحقق إلا عبر إصلاحات إنتاجية في الجهاز الصناعي ومؤسسية تعيد الثقة بالعملة والنظام المالي.