انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش قراءة في إعادة تشكيل التوازن الإقليمي

مقدمة:

يشكل إعلان دمشق عن انضمامها رسميًا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم داعش نقطة تحوّل مفصلية في مسار السياسة السورية والإقليمية على حد سواء. فبعد عقدٍ من العزلة والانقسام، تعود سوريا الجديدة إلى المسرح الدولي من بوابات عدة منها البوابة الأمنية التي تعكس توجهًا براغماتيًا لإعادة التموضع واستعادة الدور، في وقتٍ يشهد فيه الإقليم إعادة ترتيبٍ عميقةٍ لمعادلات القوة والنفوذ.

لا يمكن قراءة هذه الخطوة بمعزلٍ عن السياقات الجيوسياسية المحيطة؛ إذ يمثل انضمام دمشق إلى التحالف، الذي كان يُنظر إليه سابقًا كأداةٍ للضغط عليها، تحولًا في فلسفة الأمن الإقليمي ذاته — من منطق المواجهة إلى منطق الشراكة. ومع انضمام سوريا إلى هذا الإطار، تُطرح تساؤلات جوهرية حول طبيعة التحالفات المقبلة، وحدود التفاهم بين الفاعلين الإقليميين الرئيسيين، وعلى رأسهم تركيا، وإيران، والسعودية، وإسرائيل.

تسعى هذه الورقة إلى تقييم الانعكاسات الإقليمية لهذه الخطوة، واستكشاف مدى إمكانية أن يؤدي انضمام سوريا إلى التحالف إلى إعادة تشكيل توازنات القوى في المشرق العربي، في ضوء المتغيرات الجديدة التي أفرزها سقوط النظام السابق وصعود نهجٍ سياسيٍّ أكثر انفتاحًا على التعاون الإقليمي والدولي.

 

التحالف الدولي من منظور جديد:

 

أُسس التحالف الدولي ضد تنظيم داعش عام 2014 في أعقاب التوسع السريع للتنظيم في العراق وسوريا، وارتكز في البداية على قيادة أمريكية مباشرة، بمشاركة دول غربية وعربية، حتى وصل لاحقا إلى 89 دولة مع غياب أي تنسيق فعلي مع السلطات السورية الرسمية. ظل هذا التحالف يُنظر إليه على أنه إطار مؤقت ومرتبط بالجانب العسكري، يركز على الاستهداف الجوي والاستخباراتي لأهداف التنظيم، دون أي مشاركة مع دمشق مباشرة، وهو ما عزز شعور النظام السوري السابق بالعزلة والتهديد لسيادته.

مع الإعلان الرسمي عن انضمام سوريا إلى التحالف، يطرأ تحول نوعي على وظيفة التحالف. إذ تتحول سوريا من دولة “محايدة أو معارضة” إلى فاعل نشط ضمن آلية مكافحة الإرهاب، ما يضيف بعدًا سياسيًا واستراتيجيًا جديدًا لوجود التحالف في المنطقة. مع التأكيد بأن انخراط دمشق سياسي الطابع ولن يكون ضمن غرفة العمليات العسكرية (عملية العزم المتأصل)، ومع ذلك بما أن هناك تنسيق أمني واستخباراتي بين دمشق وواشنطن في بعض الحالات فالمتوقع استمرار هذا التعاون.

هذا التحول يعكس إعادة تعريف التحالف الدولي: من مجرد أداة لضغط القوة على سوريا إلى منصة لإعادة ترتيب النفوذ الإقليمي. تظهر فيه سوريا الجديدة كعامل وسطي قادر على الموازنة بين مصالح الفاعلين الإقليميين، وتقليل حدة التنافس المباشر بين القوى الكبرى، وفي الوقت نفسه تعزز موقفها كركيزة رئيسية في أي اتفاقيات أمنية أو اقتصادية مستقبلية.

من منظور استراتيجي، يمكن اعتبار هذا الانخراط خطوة لإعادة هندسة التوازن الإقليمي، حيث يتوقع أن تؤدي مشاركة دمشق إلى تغييرات ملموسة في سلوك تركيا، وإيران، والدول العربية، وربما إسرائيل. كما يوفر الانضمام فرصة لإعادة بناء الثقة بين سوريا والغرب، ويمهد لإطار أكثر مرونة للتحالفات الإقليمية، يتجاوز الانقسامات التقليدية ويستند إلى مصلحة مشتركة في الاستقرار ومكافحة الإرهاب.

 

انعكاسات على اللاعبين الإقليميين

 

1- تركيا

 

يُنظر إلى انضمام سوريا إلى التحالف الدولي في أنقرة كفرصة لإعادة ضبط العلاقة بين تركيا والتحالف تركيا، التي تمثل اللاعب الإقليمي الأقوى على الحدود الشمالية لسوريا تراهن على هذا الانخراط لإعادة تعريف دورها ضمن التحالف ذلك الدور الذي لم يكن قويا بسبب شراكة التحالف مع قسد لذا تنظر أنقرة اليوم إلى هذا التحول كفرصة للمشاركة في صياغة الاستراتيجات الإقليمية وبما أن انضمام سوريا إلى التحالف سيوسع نطاق تعامل دمشق مع القوى المحلية في الداخل فإن أنقرة ترى أن وجود دمشق كعضو في التحالف يقلل من الحاجة إلى الاعتماد على قسد كطرف محلي لمحاربة داعش، إذ أن دمشق الجديدة تملك الشرعية الدولية والسياسية لإدارة مكافحة الإرهاب داخل أراضيها. يضع هذا التحول تركيا أمام فرصة لإعادة التفاوض على شكل قسد وأهدافها في شمال وشرق سوريا، بما يتماشى مع مصالحها الأمنية.

من منظور أنقرة، يعيد انضمام دمشق إلى التحالف صياغة مبررات وجود قسد كقوة مستقلة، التي تشكلت أساسًا لمواجهة داعش في غياب تنسيق رسمي مع الدولة السورية. بوجود دمشق الجديدة في التحالف، تُصبح الحاجة إلى قسد أقل، وهو ما يوفر لأنقرة فرصة سياسية لتقليص التوترات على الحدود، مع الاحتفاظ بمسار التعاون ضد الإرهاب بشكل رسمي ومنظم.

بالتالي، يمكن القول إن الانخراط السياسي لسوريا يعزز القدرة التركية على إدارة الأمن الحدودي وموازنة النفوذ الكردي، ويعيد تعريف العلاقات بين أنقرة ودمشق ضمن إطار التحالف الدولي، مما يشكل عنصرًا مهمًا في إعادة هندسة التوازنات الإقليمية

 

  1. إيران

 

كانت إيران اللاعب الأكثر نفوذاً في سوريا، حيث شكلت دمشق محوراً أساسياً في استراتيجيتها الإقليمية ضمن ما يُعرف بمحور المقاومة. منح هذا النفوذ طهران القدرة على توجيه السياسات السورية داخلياً وخارجياً، والحفاظ على خطوط اتصال مباشرة مع حلفائها العسكريين والسياسيين في المنطقة.

يُعد انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد داعش بالنسبة لإيران تحولاً استراتيجياً حساساً. وبما أن الانضمام سياسي وليس عسكرياً، فإن وجود دمشق كعضو سياسي في التحالف يمثل لأول مرة حضوراً غربياً منظماً ورسميا في قلب سوريا، وهو ما تعتبره طهران تهديداً مباشراً لمصالحها الاستراتيجية.

سيضاف هذا التحول إلى سلسلة التحديات الاستراتيجية التي تواجه إيران التي قد تتبنى استراتيجية التأقلم التكيفية لضمان استمرار دور محور المقاومة كأداة استراتيجية مع تقليل المخاطر على مصالحها الأساسية في مواجهة إسرائيل.

 

  1. السعودية ودول الخليج

 

يمثل انضمام سوريا إلى التحالف الدولي بالنسبة لدول الخليج، وعلى رأسها السعودية والإمارات، فرصة استراتيجية لإعادة تأسيس العلاقات مع دمشق بعد سنوات من التباعد. تعكس الخطوة تحولاً سياسياً سورياً يتيح للدول العربية إعادة النظر في دور سوريا في الإقليم، بعيداً عن سيطرة المحور الإيراني، وفي إطار من المصالح المشتركة لمكافحة الإرهاب والحفاظ على الاستقرار.

 

من منظور سعودي وخليجي، الانخراط السياسي لسوريا في التحالف يوفر:
  1. قناة دبلوماسية مفتوحة لإعادة بناء الثقة بين الدول العربية وسوريا الجديدة، تمهيداً لتعاون أوسع في ملفات الأمن الإقليمي وإدارة الأزمات الإنسانية واللاجئين.

 

  1. فرص اقتصادية تتعلق بإعادة الإعمار والاستثمار، ما يسمح للدول الخليجية بالمساهمة في جهود إعادة الإعمار، وتأمين مصالحها الاقتصادية في سوق سورية الناشئة بعد سقوط النظام السابق.

 

  1. إمكانية ضبط النفوذ الإيراني عبر تعزيز دور دمشق الذي صار مستقلا عن طهران، وبالتالي تقليص فرص تمدد المحور الإيراني داخل سوريا والمنطقة بشكل عام.

 

من وجهة نظر استراتيجية، ستتعامل دول الخليج مع الانضمام السوري على أنه خطوة لتحقيق توازن إقليمي أوسع، من خلال دعم دمشق الجديدة لتصبح لاعباً مستقراً وموثوقاً، يمكن أن يكون شريكاً في مكافحة الإرهاب وتعزيز الاستقرار. كما يتيح هذا الانخراط فرصة لإعادة رسم خرائط النفوذ العربي في سوريا، بحيث تصبح الحكومة السورية الجديدة محوراً يمكن التفاوض معه بشأن الملفات الحساسة، مثل عودة اللاجئين، وإعادة دمج الفصائل المحلية، وضبط الحدود المشتركة مع العراق وتركيا.

في المجمل، فإن انضمام سوريا إلى التحالف يُعزز أفق التعاون الخليجي–السوري، ويوفر مساحة استراتيجية لدول الخليج للعب دور أكبر في استقرار المنطقة، من دون الانخراط المباشر في الصراعات العسكرية، ويعزز فرص إعادة بناء العلاقات السياسية والاقتصادية بطريقة توازن مصالح القوى الإقليمية كافة.

 

  1. إسرائيل

 

تنظر إسرائيل إلى انضمام سوريا إلى التحالف الدولي بعين البراغماتية والحذر الاستراتيجي فإن وجود دمشق في التحالف يغير معادلة الأمن على الحدود الشمالية لإسرائيل، حيث يمكن أن يقلل من التوترات المباشرة مع القوات السورية الرسمية ويحد من أي نشاط ميليشياتي خارج السيطرة في الجنوب السوري.

 

تعتبر تل أبيب هذا التحول بمثابة فرصة لتعزيز آليات ضبط الاشتباك مع دمشق، خصوصاً في مناطق جنوب سوريا المجاورة للجولان، مع الحفاظ على قدرة الردع التقليدية. كما أنها ستتابع بعناية مدى تنسيق الحكومة السورية الجديدة مع التحالف الدولي، بما يشمل التعاون الاستخباراتي المحدود ضد داعش، لرصد أي تهديد محتمل لمصالحها الأمنية.

 

من منظور استراتيجي، ترى إسرائيل أن الانخراط السوري السياسي في التحالف قد يسمح بظهور تفاهمات غير مباشرة حول إدارة الحدود وعمليات مكافحة الإرهاب، دون أن تتطلب مشاركة دمشق في العمليات القتالية المباشرة ضمن عملية العزم المتأصل. يتيح هذا الوضع لإسرائيل مساحة من الاستقرار النسبي في الجنوب السوري، مع الاحتفاظ بالقدرة على ضبط أي تجاوزات قد تشكل تهديداً للأمن القومي الإسرائيلي.

 

إضافة إلى ذلك، ستتابع تل أبيب تأثير هذا التحول على اللاعبين الإقليميين الآخرين:

  • تركيا: كحليف رئيسي بارز لسوريا الجديدة.
  • إيران: لتقييم مدى تراجع النفوذ الإيراني في سوريا ومحيطها.
  • دول الخليج: لمعرفة مدى تعزيز الدور العربي في سوريا، وهو ما قد يقلل من نفوذ إيران الإقليمي على المدى المتوسط.

 

باختصار، تنظر إسرائيل إلى انضمام سوريا السياسي للتحالف الدولي باعتباره  فرصة لإعادة ضبط الاستقرار الحدودي والتوازنات الأمنية، مع الحفاظ على قدرة الردع ومراقبة أي تحركات قد تهدد مصالحها، وهو ما يجعل الحكومة السورية الجديدة لاعباً مركزياً في إدارة ملفات الأمن الإقليمي بشكل أكثر توازناً.

 

إعادة تشكيل التوازن الإقليمي

 

يمثل انضمام سوريا بقيادة إلى التحالف الدولي ضد داعش تحولاً استراتيجياً محورياً في الشرق الأوسط، لأنه مؤشر على إعادة ترتيب موازين القوة الإقليمية بعد عقد من الصراعات والتوترات. ويضع دمشق الجديدة في قلب المعادلة السياسية والأمنية في الإقليم، ويحولها من دولة كانت تُعاني من العزلة إلى فاعل سياسي ذي شرعية دولية قادر على التفاوض والتأثير في قضايا الأمن الإقليمي ومكافحة الإرهاب.

تتحرك سوريا الجديدة من موقع التبعية لمحور المقاومة، حيث كانت القرارات الكبرى تتأثر بتوجهات طهران وحزب الله، إلى موقع وسيط سياسي وأمني قادر على الموازنة بين مصالح القوى الإقليمية المختلفة. هذا التحول يعني أن دمشق لم تعد طرفاً هامشياً، بل أصبحت لاعباً يمكنه توجيه التحالف الدولي والمساهمة في صياغة استراتيجياته، خصوصاً في إدارة مناطق النفوذ وتقسيم المسؤوليات الأمنية ضد التنظيمات الإرهابية.

علاوة على ذلك، يعكس هذا الانخراط رغبة الحكومة السورية الجديدة في الانفتاح على الفاعلين الإقليميين والدوليين، دون التخلي عن سيادتها، ما يسمح لها بلعب دور محوري في تهدئة النزاعات الإقليمية، وإعادة ضبط العلاقة بين اللاعبين الرئيسيين مثل تركيا، إيران، ودول الخليج، وصولاً إلى تقليص احتمالات الصدام المباشر بينهم داخل سوريا.

يمكن اعتبار هذه الخطوة بمثابة بداية مرحلة جديدة لإعادة هندسة التوازن الإقليمي، حيث تصبح دمشق الجديدة محوراً للتفاهمات الأمنية والسياسية، وقاعدة للتنسيق بين القوى الدولية والإقليمية لمواجهة التحديات المشتركة، بما في ذلك الإرهاب وإعادة الإعمار والاستقرار السياسي. يعكس الانخراط السوري بهذا الشكل بوضوح تحول سوريا من طرف متأثر بالآخرين إلى قوة موازنة قادرة على التأثير في مخرجات السياسة الإقليمية.

 

أولاً: من المتوقع أن يؤدي هذا التحول إلى تخفيف حدة التنافس الإقليمي في سوريا, تركيا التي ترى في انضمام سوريا إلى التحالف فرصة لحسم ملف قسد وإدارة الحدود الشمالية ستتمكن من التعاون مع دمشق ضمن إطار التحالف بينما ستضطر إيران إلى إعادة ضبط نفوذها ومراقبة التحولات السياسية.

 

ثانياً: يوفرهذا التحول فرصة للدول العربية لتعزيز دور دمشق المستقل عن طهران والمساهمة في جهود إعادة الإعمار بما يدعم استقرار المنطقة ويحد من توسع النفوذ الإيراني.

 

ثالثاً: ستسفيد إسرائيل من من هذا التحول لتثبيت آليات ضبط الاشتباك على حدودها الشمالية مع الحد من أي تهديد مباشر بالإضافة إلى استمرار قدرتها على الاحتفاظ بخيارات الردع التقليدية.

 

في المجمل، يمكن القول إن انضمام سوريا إلى التحالف يخلق نمطاً جديداً من التحالفات المرنة، حيث تتشكل تفاهمات سياسية وأمنية مؤقتة بين أطراف كانت خصوماً سابقاً، اعتماداً على مصالح مشتركة في مكافحة الإرهاب والاستقرار الإقليمي. ومع تكرار آليات التنسيق والتفاهم، فإن هذا التعاون السياسي والأمني قد يتحول تدريجياً إلى نواة أمنية إقليمية، تلعب دمشق من خلالها دوراً محورياً في إدارة الاستقرار الإقليمي وموازنة مصالح القوى الإقليمية المختلفة. هذا التحول يعكس قدرة دمشق على إعادة ترتيب أولوياتها الخارجية، وتنويع شركائها الإقليميين والدوليين، مع الحفاظ على سيادتها ومرونتها الاستراتيجية، ويضعها في موقع مؤثر يسمح لها بالمساهمة في صياغة سياسات الأمن الإقليمي بعيداً عن التبعية لأي محور محدد.

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

تتنقّل سورية بعد سقوط الديكتاتورية الاقتصادية بين إرث كينزية مشوّهة وهيمنة شبكات الحرب، بينما تحاول الدولة اليوم بناء اقتصاد نيوليبرالي…
مع تصاعد الإصلاحات التشريعية والانفتاح الدبلوماسي، تستعيد سوريا موقعها على الخريطة الدولية بثبات جديد ورؤية أكثر نضجاً، مرحلة انتقالية واعدة…
تمكين الشباب السوري هو ركيزة أساسية لإعادة البناء والتنمية، عبر دعمهم اقتصاديا واجتماعيا وتعليميا، بما يعزز الاقتصاد المحلي والتماسك الاجتماعي…

القائمة