العدالة الانتقالية ودورها في استقرار المجتمع السوري

بعد انتهاء الحروب وانهيار الأنظمة البائدة المجرمة، لا تعود الحياة إلى سابق العهد من الاستقرار والعيش الكريم المشترك، بل يبدأ زمن العلاج، زمن إزالة آثار الانتهاكات التي رافقت الحروب أو الإبادة، وتبرز هنا أهمية العادلة الانتقالية كضرورة إنسانية وأخلاقية أولاً، وكحاجة حتمية وقضائية وسياسية ثانياً، لمعالجة الآلام والفوضى ومنع تكرارها مستقبلاً بالوسائل المتاحة، حفاظاً على العقد الاجتماعي والأمن والاستقرار والسلمي المجتمعي.

 

ما العدالة الانتقالية: وما هو مفهومها؟

 

العدالة الانتقالية هي مجموعة من الآليات والإجراءات القضائية وغير القضائية التي تطبقها المجتمعات الخارجة من فترات العنف أو الحكم القمعي، بهدف معالجة الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، مثل القتل خارج القانون، الإخفاء القسري، التعذيب، والتهجير القسري.

وينبع جوهر وأهمية العدالة الانتقالية كونها صمام أمان لمنع الانفجار الشعبي ضد من انتهك وقتل وأجرم وأمر وباشر العنف، حيث لا يزال نحو 112 ألف مواطن سوري في عداد المختفين قسراً منذ عام 2011

كما تعد وسيلة وقائية مستقبلية بما تحمله من أسس ومبادئ إنسانية وقانونية تحول دون وقعوها وتكرارها بجيل الأبناء بعد جيل الآباء، إذن هي مفتاح الأمان والاستقرار والسلم الأهلي والعيش المشترك بين أبناء المجتمع الواحد وأبناء الدولة الواحدة.

 

 

ما هي أساليب ومبادئ تطبيق العدالة الانتقالية؟

 

 

هناك عدة إجراءات ومسارات وأسس تعين على تفعيل وتطبيق العدالة الانتقالية وأهمها:

الكشف (لجان الحقيقة):

الكشف عن ملابسات الجرائم والمجرمين والتجاوزات وجميع التفاصيل المتعلقة بالانتهاكات، وأعداد الضحايا وطريقة الإيذاء أو التصفية ومكان تواجد مقابر الشهداء، وعبر هذا الإجراء يمكننا تحديد المجرمين، والتحضير لبقية الإجراءات.

المحاسبة (المحاكمات):

العمود الفقري للعدالة الانتقالية أن ينال المجرم الجزاء المستحق عبر المحاسبة والتي تكون عبر طريقين:

الطريقة الأولى: المحاسبة القضائية لمن أمر وباشر ونفذ الإجرام، عبر محاكم عادلة وقوانيين ضابطة.

والطريقة الثانية: العزل السياسي والمنع من بعض الحقوق لمن عاون بشكل غير مباشر أو أنكر الانتهاكات والجرائم بحق الضحايا، على سبيل المثال في سوريا بعض الشخصيات لم تمارس القتل أو الإيذاء الجسدي بل مارست تحريضاً إعلامياً او تشويهاً للمجتمع السوري الذي تعرض للإبادة الممنهجة فهنا ومثل هذه الشخصيات لا يحق لها ممارسة السياسة عقوبة لها على المواقف السلبية المؤذية الممنهجة.

التعويض (جبر الضرر):

على الدولة والسلطة الجديدة في مناطق الانتهاكات أن تعوض جموع الضحايا بما يحتاجونه من علاجه جسدي ونفسي أو مادي، فمن تعرض لإصابة أو إعاقة جسدية أو لتدمير بيت أو نهب شركة أو حرق سيارة أو فقد شخص غال عليه يتوجب في هذه الحالة على الدولة الجديدة أن تسارع إلى جبر هذا الضرر، والحد منه قدر المستطاع سواء كان مادياً أو معنوياً، بتقديم عوض ما، أو تقديم تكريم واعتذر بطريقة تجبر الأسى وتخفف الظلم الذي تعرضوا له.

 

 سن القوانين وتطهير المؤسسات (إصلاح المؤسسات):

يتوجب على السلطة الجديدة أن تقوم بعدة إجراءات ضمن إصلاح مؤسساتي ودستوري يبعد القادة والرؤساء مرتكبي الإبادة، ويلغي القرارات الخاصة التي تلاحق الشعب المكلوم عبر مذكرات الاعتقال، إلى جانب سنّ تشريعات وقوانيين تحمي كرامة الإنسان وتضمن محاسبة المعتدين على حقوقه، كل ذلك بهدف منع تكرار الجرائم مرة أخرى.

هذه المبادئ لا تعني بالضرورة أن كل الانتهاكات ستُحاسب أمام المحاكم، لكنها تفتح الطريق لبناء ذاكرة جماعية تحترم الحقيقة والعدالة، عبر محاسبة المجرمين والمنتهكين للحقوق من أصحاب الصف الأول والثاني.

 

 

التجارب المشابهة للحالة السورية:

 

في عالمنا يوجد أكثر من 150 تجربة في حقل العدالة الانتقالية بعضها كانت النتائج فيها إيجابية، وفي بعضها الآخر كانت سلبية، ومن أولى التجارب التي يمكننا ذكرها للاستفادة في هذا الباب، هي التجربة الرواندية حيث مورست انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في هذا البلد، فقتل نحو مليون إنسان، وهجر الناس وساءت أحوال البلاد وعم الحقد والبغض، وأصبح قتل الإنسان شيئاً طبيعياً، وصارت روندا مثالاً يذكر في الانتهاكات والإبادة الجماعية، هذا التاريخ الأسود والوضع المضطرب لم يكن نهاية الطريق، بل كان بداية نهضة وعز لتلك البلاد التي بدأت بإدارة جديدة واعية إلى متطلبات المرحلة، فأقرت قوانين صارمة لاحقت المجرمين وشكلت لجان مصالحة وطنية بين عموم الشعب الواحد بدأت بالاعتراف بالجريمة من الطرف الأول والعفو من الطرف الثاني، كما أقرت إجراءات دستورية تمنع العنصرية وتحاربها وتشجع الاستثمار وجعلت من السجن مركزا إصلاحياً لا عقابيا فقط.

وبعد سنوات قليلة من التنمية والاستقرار نالت روندا وعاصمتها كيغالي لقب المدينة الأكثر أمناً، والأكثر نظافة والأكثر حداثة بين العواصم الأفريقية..

يقول الباحث الرواندي فيدريم موغابي “أصبحت كيغالي اليوم إحدى أفضل المدن في العالم، فهي آمنة ونظيفة وخضراء وجاذبة، وتحتضن العديد من الملتقيات الاقتصادية وقمم الاتحاد الأفريقي، وهذا يدل على أنها مدينة متطورة”.

فلم تكن العدالة الانتقالية وآلياتها انتقاماً بل انتقالاً من الفوضى إلى الاستقرار ومن التفرق إلى الوحدة ومن الخوف إلى الأمان ومن الظلم إلى العدل..

فالعدالة الانتقالية هي المشروع الوطني الناجح الذي ينقل البلاد والمجتمع من التاريخ الأسود إلى المستقبل الآمن الكريم، وكل ذلك لم يكن ليتحقق لو لم يشعر الضحايا وعائلاتهم أنهم أنصفوا وجبروا وعاد الحق إليهم.

 

 

إنجازات الدولة السورية في مجال العدالة الانتقالية:

 

1- تشكيل هيئة العدالة الانتقالية:

أصدر الرئيس أحمد الشرع المرسوم رقم 20 القاضي بتشكيل الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية، والهدف منها كشف الحقيقة حول الانتهاكات والجرائم ومحاسبة المسؤولين عنها، بالإضافة إلى العمل على تعويض الضحايا وترسيخ مبدأ عدم الإفلات من العقاب، وضمان عدم تكرار هذه الانتهاكات مستقبلاً، وقد تم تعيين السيد عبد الباسط عبد اللطيف رئيساً للهيئة، ولضمان نجاح هذه الهيئة وعملها فقط تمتعت باستقلال مالي وإداري وبحرية العمل في جميع أنحاء الدولة السورية

 

2- اعتقال العديد من المتورطين في الانتهاكات:

خلال الأشهر القليلة الماضية بذلت الدولة جهوداً كبيرة على جميع الأصعدة والمستويات، متقدمة في ملف العدالة الانتقالية، داخلياً حيث اعتقلت العديد من المجرمين من ضباط النظام البائد وشبيحته المتورطين في الانتهاكات والجرائم، والذين اعترفوا بجرائمهم بشكل علني وفق فيديوهات موثقة تشرح تلك الانتهاكات ولعل من أبرزها فيديو مجزرة الحولة الذي تم عرضه من قبل الداخلية السورية، وجاء اعتقال وسيم الأسد ابن عم الرئيس المخلوع ليعكس الجدية والمتابعة الحثيثة من الدولة لهذه المسألة التي تعدها مسألة سلم أهلي وأمن مجتمعي.

وأما خارجياً فقد طالبت الدولة السورية موسكو بتسليم بشار الأسد لمحاكمته على الأراضي السورية، في خطوة تعكس حرصها على محاسبة جميع المتورطين بغض النظر عن مكان تواجدهم، مؤكدة أن العدالة لا تعرف حدوداً وأنها أمر حتمي لا مفر منه

 

3- تفكيك وإصلاح المنظومة الأمنية:

أعلنت وزارة الداخلية السورية عملية إعادة هيكلة شاملة للأجهزة الأمنية التي ارتبط اسمها بالقمع والتنكيل بشعبنا السوري، فتم حل جميع الأفرع الأمنية والإبقاء على فرع واحد فقط، وهو الأمن العام، كما تم تغيير اسم الأمن الجنائي لما له من ذكرى سلبية في ذاكرة السوريين إلى اسم إدارة المباحث الجنائية كما صرح الناطق باسم الداخلية نور الدين البابا، كل هذه الخطوات والإصلاحات تعكس التزام الدولة الجاد بإرساء العدالة الانتقالية كركيزة أساسية وتوليها اهتماماً خاص لأثرها على السلم الأهلي

 

 

التحديات والصعوبات التي تعرقل وتؤخر العدالة الانتقالية في سوريا؟

 

النظام الانتقالي القائم في سوريا هو نظام جديد في ممارسته للسياسة ونيله للشرعية والاعتراف من المجتمع الدولي وفي قدراته وعلاقاته مع الفواعل الإقليمية والدولية، حيث جاء في بيئة خاصة وله قدرات وإمكانيات خاصة تحد من قراراته وأهمها:

1- ترتيب الأولويات لدى الدولة: للدولة أولويات كثيرة متمثلة بالحصول على الاعتراف والشرعية الدولية وضبط الواقع الأمني وتحسين المستوى الخدمي والمعيشي وإعادة الإعمار وغيرها من الأولويات.. مما يجعل قادة سوريا الجدد يقدمون بعض الملفات على بعضها الآخر في الوقت الحالي.

 

2- نقص الموارد وضعف مؤسسات الدولة: تتطلب العدالة الانتقالية توفير تشريعات ناظمة وتأهيل قضاة ومختصين لمحاسبة المجرمين ومحاكمتهم بعدالة بلا ظلم وجور، كما تتطلب توفير أماكن للسجن والعقوبة تحفظ كرامة الإنسان ويعمل فيها على تأهيله ودمجه من جديد في مجتمعه.

 

3- الضغوط الدولية المتباينة: يخشى النظام الجديد من توتر بعض العلاقات مع محيطه الإقليمي والدولي جراء قرار البدء بتنفيذ آليات العدالة الانتقالية، وهو الآن يعيش في مرحلة غاية في الحرج إذ يحتاج في استمراريته وتوفير مقومات وجود الدولة السورية إلى علاقة تعاون مع جميع الدول سياسياً واقتصادياً، الأمر الذي يدفعه للتأخر في تنفيذ آليات العدالة الانتقالية، وبشكل خاص مسألة الاستثمار والإعمار التي من شبه المؤكد أن تتعرض لعوائق كبيرة نتيجة المحاسبة، الأمر الذي من شأنه تأخير التعافي في الدولة الوليدة.

4- الكم الهائل للانتهاكات وطول الفترة الزمنية: من أبرز التحديات التي تواجه العدالة الانتقالية في سوريا اليوم هو حجم الانتهاكات الضخم، وتراكمها على مدى سنوات طويلة، فقد عايش السوريون جرائم قاسية، من القتل والاعتقال والاختفاء القسري، إلى التهجير والتعذيب وتدمير البنى التحتية، هذه الانتهاكات لم تقتصر على فترة قصيرة أو طرف واحد، بل امتدت لأكثر من 14 سنة، وتورطت فيها أطراف متعددة داخلية وخارجية، كإيران وروسيا وقوات حزب الله وأكثر من 60 فصيلاً ميليشياوياً عابراً للحدود

 

هذا الامتداد الزمني الواسع يجعل من عملية جمع الأدلة، وتوثيق الجرائم، وتحديد المسؤوليات أمراً بالغ الصعوبة.

 

5- طمس الحقائق وغياب التوثيق لبعض المجازر: مع حجم الانتهاكات الكبير الذي شهدته البلاد، تواجه لجنة العدالة الانتقالية تحدياً صعباً بسبب وجود جرائم ومجازر لم تعرف الجهات المسؤولة عنها بشكل واضح ولم تحدد، وبعضها لم توثق بشكل كامل، بل هناك عدة روايات متعارضة في حصولها، يضاف أيضاً أن بعض المواقع المهمة ومسارح الجريمة مثل فرع الأمن 325 في اللاذقية قد تعرضت للعبث من قبل بعض الجهات المدنية التي قالت إنها تسعى لإعادة تأهيل المكان أو تنظيفه، لكن هذا العبث قد أدى إلى ضياع أدلة مهمة تهدد نجاح التحقيقات، كل هذه الأمور تجعل من عملية العدالة الانتقالية أمراً صعباً ويحتاج إلى تعاون وشفافية بين الدولة والمجتمع وأسر الضحايا.

 

هذا التأخير قد يكون مفهوماً في سياق المرحلة الانتقالية، لكنه يحمل مخاطر حقيقية على المدى الطويل، كما سنوضح في القسم التالي.

 

 

ماذا لو تراخت وتقاعست الدولة في تطبيق العدالة الانتقالية:

 

1- فقدان الثقة في مؤسسات الدولة والنظام الجديد: من أبرز إنجازات الثورة السورية هو عودة الأمل والثقة بمؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، وكونها خادمة للشعب ولقضية العدالة كما صرح الرئيس أحمد الشرع، وإن شعور المواطنين بتقاعس وتراخي الدولة في مسألة العدالة ومعاقبة المجرمين، سيضعف الثقة بها وبمسؤوليها وسيجعلها عرضة للاتهامات في سبيل الوصول لجواب على هذا السلوك مما يضعف المجتمع والدولة معاً

 

2- لجوء الناس إلى أخذ الحق بأيديهم: إن تراخي الدولة في تنفيذ العدالة الانتقالية، يدفع ويحرض المتضررين إلى اللجوء للثأر أو تصفية الحسابات الشخصية بطرقهم الشخصية، مما يهدد الأمن والسلم الأهلي، ويفتح الباب أمام فوضى داخلية، قد تتطور إلى نزاعات أهلية وانتشار خطير للعنف.

 

3- ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب وتكرار الجريمة: إن غياب المحاسبة يعطي رسالة واضحة للمجرمين الحاليين الذين ارتكبوا الانتهاكات والإبادة والمستقبليين بأن الجريمة يمكن أن تمر دون عقاب، دون محاسبة ودون ردع، وهذا يؤدي إلى تكرار دوائر العنف ويهدد السلم المجتمعي، قال ربنا جل جلاله: “ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب”، فالقصاص ليس انتقاماً، بل نظام رادع يضمن الحياة والاستقرار للناس، وسبب في إحيائهم وإحياء الأجيال القادمة.

 

 

التوصيات:

 

العمل على تعزيز الوعي بحقوق المواطن السوري والحريات الأساسية التي كفلها الدستور والدولة السورية.

 

مطالبة مجلس الأمن والأمم المتحدة لروسيا وبقية الدول الأخرى، بضرورة تسليم مجرمي الحرب جميعاً وفي مقدمتهم بشار الأسد.

 

ضرورة المحاسبة على مستويات متعددة فتشمل الإجراءات القيادات العسكرية والأمنية والإعلاميين والفنانين المحرضين الذين ساهموا في تعزيز جرائم النظام.

 

العزل السياسي والمنع من الظهور الإعلامي واللقاءات الإخبارية والثقافية لمن أنكر الجرائم أو أيدها أو استهزأ بمعاناة الشعب المكلوم.

 

الحفاظ على الأدلة وعلى مسارح الجريمة من سجون ومقابر جماعية من أي عبث أو تدمير.

دعم الاستثمار وإعادة الإعمار وتوفير الحياة الكريمة للشعب السوري الأمر الذي سينعكس إيجاباً على الاستقرار والسلم الأهلي.

 

لتعاون والتنسيق مع الشبكة السورية لحقوق الإنسان، التي توثق أسماء عشرات الآلاف من المجرمين، والاستفادة من أرشيف بعض الناشطين.

 

إطلاق برامج دعم نفسي واجتماعي للناجين والضحايا لمساعدتهم على تجاوز الآثار النفسية للإبادة والجرائم.

 

إصلاح المؤسسات عبر تطهيرها من المجرمين وسن قوانين تحمي حقوق الإنسان لمنع تكرار الانتهاكات.

 

العمل السريع على جبر الضرر الحاصل على الشعب السوري مادياً بتعويض مادي أو معنوي.

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

حوار سياسي تناول تحديات العمل الحزبي وآفاق التعددية السياسية في سوريا المستقبل….
حين يصبح السؤال: لماذا توقفت المعونة؟ بدلًا من: كيف أبدأ أعمل؟ نعرف أننا أمام أزمة وعي لا أزمة مال…
ترفض سوريا التطبيع مع إسرائيل رفضاً قاطعاً يستند إلى تجربتها الثورية واحتلال الجولان، إضافة إلى الدعم الشعبي والديني الراسخ لقضية…

القائمة