يعد إصلاح قطاع التربية والتعليم أحد أهم مرتكزات إعادة بناء الدولة السورية بعد سنوات الحرب والتدهور المؤسسي، فالتعليم ليس مجرد عملية تلقين معرفي، بل هو مشروع وطني لبناء الإنسان وتشكيل وعي الأجيال وصياغة مستقبل البلاد على أسس العلم والكفاءة والانتماء، لقد عانى النظام التعليمي السوري خلال العقود الماضية من أزمات متراكمة، تمثّلت في مركزية القرار، وتهالك المناهج، وضعف التأهيل التربوي، وانفصال مخرجات التعليم عن سوق العمل، فضلاً عن التسييس الممنهج الذي أفقد المؤسسات التعليمية استقلاليتها ودورها النقدي والمعرفي.
ومع انفتاح الأفق نحو مرحلة جديدة في سوريا، تبرز الحاجة الملحة إلى إصلاح شامل يبدأ من التعليم الأساسي ويصل إلى الدراسات العليا، إصلاح يعيد للتعليم مكانته كقوة دافعة للتنمية والنهضة، ويؤسس لنظام تربوي حديث يقوم على الإبداع والبحث العلمي والعدالة في فرص التعلم، هذه الورقة تستعرض أبرز ملامح هذا الإصلاح، وأولوياته..
ما أبرز مظاهر الخلل والفساد التي تركها النظام البائد في مجال التربية والتعليم العالي؟
أولاً: في مجال التربية والتعليم المدرسي (الابتدائي والإعدادي والثانوي)
- تسييس التعليم وتوجيهه لخدمة النظام
- المناهج الدراسية صُممت لتقديس الحاكم والحزب، لا لبناء وعي وطني نقدي.
- غُيّبت قيم الحرية والعدالة والمواطنة، وحلّت محلها شعارات دعائية.
- دروس التاريخ والتربية الوطنية ركزت على “إنجازات الأسد المزعومة” وتجاهلت الحقائق الموضوعية.
- الفساد الإداري والمالي
- بيع الدرجات والشهادات مقابل المال أو الولاء.
- المحسوبيات في التعيينات والترقيات داخل وزارة التربية.
- تضخّم الجهاز الإداري دون كفاءة حقيقية.
- تدهور البنية التحتية
- تحولت المدارس إلى مبانٍ متهالكة تفتقر إلى التدفئة والمياه والمخابر.
- كثافة صفية مرتفعة جداً بسبب الإهمال وقلة التخطيط.
- تراجع الكفاءة التعليمية
- ضعف إعداد المعلمين وعدم وجود تدريب مستمر.
- غياب المناهج الحديثة القابلة للتطبيق.
- الاعتماد على الحفظ والتلقين بدل التفكير النقدي والإبداعي.
ثانياً: في المرحلة الثانوية
- تمييز طبقي في الفرص
- مدارس النخبة (الخاصة أو العسكرية أو الحزبية) كانت لأبناء المسؤولين.
- أبناء الطبقات الفقيرة حُصروا في مدارس عامة ضعيفة المستوى.
- الغش في الامتحانات
- انتشار الغش برعاية بعض الإدارات أو بتواطؤ مراقبين.
- غياب العدالة في التقييم، مما أفقد الشهادات قيمتها.
- إهمال التوجيه المهني
- النظام التعليمي لم يربط التعليم بسوق العمل، فامتلأت الجامعات بتخصصات نظرية لا تخدم التنمية.
ثالثاً: في الجامعات والتعليم العالي
- تسييس الجامعة
- اتحادات الطلبة كانت أدوات رقابة وتخويف بيد الأجهزة الأمنية.
- تم طرد أو سجن أساتذة لمجرد آرائهم الفكرية أو السياسية.
- فساد إداري وأكاديمي
- تعيين عمداء ورؤساء جامعات على أساس الولاء الحزبي.
- بيع الرسائل الجامعية أو القبول في الدراسات العليا بالمحسوبيات.
- ضعف البحث العلمي وقلة تمويله.
- غياب الاستقلالية الأكاديمية
- تدخل السلطة في المناهج والبحوث والقرارات الجامعية.
- فقدت الجامعة دورها كمركز فكر نقدي وحر.
- هجرة العقول
- بسبب القمع والتمييز وقلة التقدير، هاجر آلاف الأساتذة والمبدعين.
رابعاً: في مجال البحث العلمي والتعليم العالي
- تم تهميش البحث العلمي لصالح الولاء السياسي.
- غياب المخابر والمجلات العلمية الجادة.
- التمويل يذهب لمشاريع شكلية لإرضاء الوزارة.
- قطيعة بين الجامعات واحتياجات المجتمع أو سوق العمل.
ما أهم القضايا أو الملفات التشريعية العاجلة تحتاج إلى معالجة في المرحلة القادمة في مجال التربية والمدارس العامة والثانويات والجامعات والتعليم العالي في سوريا؟
ملف التعليم يحتاج إلى إصلاحات عميقة في الإطار التشريعي والتنظيمي، لضمان أن تكون العملية التربوية وطنية، علمية، ومواكبة للعصر.
أولاً: في مجال التربية والمدارس العامة
- إصدار قانون جديد للتربية الوطنية
- يحدد فلسفة التعليم على أسس الحرية والكرامة والمواطنة بدل التلقين الأيديولوجي.
- يعيد صياغة الأهداف التربوية لتكون موجهة نحو بناء الإنسان المنتج والمشارك.
- قانون محدث لإدارة المدارس
- يمنح المدارس استقلالاً إدارياً وتربوياً جزئياً.
- ينظم العلاقة بين الوزارة – الإدارات – المجالس المحلية – أولياء الأمور.
- يسمح بتفعيل مجالس أولياء الأمور والمعلمين كشركاء في الرقابة والتطوير.
- نظام وطني لتأهيل المعلمين
- تشريع يُلزم بإنشاء مركز وطني لتدريب وتأهيل المعلمين بشكل دوري.
- ربط الترفيع والترخيص المهني بنتائج التدريب المستمر.
- مراجعة شاملة لقانون المناهج
- إعادة صياغة المناهج على أسس علمية، بعيداً عن التسييس والتطرف.
- إدخال مقررات التفكير النقدي والمهارات الحياتية والرقمية.
- قانون لتمويل التعليم العام
- يضمن تمويلاً مستقراً وعادلاً من الموازنة العامة.
- يسمح بإقامة شراكات مع المجتمع المدني والقطاع الخاص ضمن ضوابط واضحة.
ثانياً: في مرحلة التعليم الثانوي
- تطوير نظام القبول الجامعي
- إصدار قانون يجعل القبول على أساس الكفاءة والقدرات لا فقط على معدل البكالوريا.
- اعتماد اختبارات قدرات خاصة بكل تخصص.
- تحديث قانون التعليم المهني والتقني
- تحويل الثانويات الصناعية والزراعية والتجارية إلى مراكز تدريب إنتاجية.
- تنظيم العلاقة بين التعليم المهني وسوق العمل من خلال تشريعات واضحة.
- إصدار تشريع لمكافحة الغش والتلاعب
- قانون خاص يجرّم الغش في الامتحانات والتلاعب بالشهادات، بعقوبات رادعة.
ثالثاً: في الجامعات والتعليم العالي
- قانون استقلال الجامعات
- يمنح الجامعات استقلالاً أكاديمياً ومالياً تحت إشراف مجلس وطني للتعليم العالي.
- يمنع تدخل الجهات السياسية أو الأمنية في التعيينات والقرارات الأكاديمية.
- قانون الشفافية الأكاديمية
- يُلزم الجامعات بنشر بيانات القبول، والنفقات، والنتائج الأكاديمية بشكل علني.
- إنشاء هيئة وطنية للنزاهة الأكاديمية لمراقبة الأطروحات والبحوث.
- تشريع حديث للبحث العلمي
- تأسيس المجلس السوري للبحث العلمي والابتكار.
- ربط التمويل البحثي بالأولويات الوطنية (الطاقة، الزراعة، التكنولوجيا، التعليم…).
- نظام لترخيص الجامعات الخاصة
- تحديث قانون الجامعات الخاصة لضمان الجودة ومنع المتاجرة بالشهادات.
- وضع آليات رقابة مستقلة للبرامج والمناهج والمخرجات.
- تعديل قانون البعثات والدراسات العليا
- اعتماد مبدأ الشفافية والتنافسية في الابتعاث، لا الولاء الحزبي أو الشخصي.
- إلزام الموفدين بالعودة والعمل في الوطن لفترة محددة بعد تخرجهم.
رابعاً: في الإدارة التعليمية
- قانون الخدمة التعليمية
يحدد بوضوح شروط التعيين والترفيع والمساءلة للكوادر التربوية.
يربط الحوافز بالأداء المهني وليس بالولاء أو العلاقات.
- تفعيل التشريعات الرقمية
سنّ قوانين تسمح بالتحول الرقمي في التعليم (المدارس الذكية، المنصات الإلكترونية، الأرشفة).
تنظيم الاعتراف الرسمي بالتعليم الإلكتروني والتعليم المدمج.
خامساً: الإطار الجامع
المطلوب ليس فقط تعديل القوانين، بل بناء منظومة تشريعية تعليمية جديدة قوامها:
- الاستقلال الأكاديمي
- النزاهة والشفافية
- الكفاءة والجدارة
- ربط التعليم بالتنمية الوطنية
ما التحديات أو العقبات التي تواجه عملية الإصلاح في التربية والتعليم والتعليم الجامعي ؟ وكيف يمكن التعامل معها بفعالية؟
تشخيص التحديات بدقة هو الخطوة الأولى نحو إصلاح تعليمي ناجح ومستدام.
في الحالة السورية تحديداً، تواجه عملية إصلاح التربية والتعليم والتعليم الجامعي تحديات مركّبة تتعلق بالسياسة والاقتصاد والمجتمع والثقافة، لا فقط بالبنية التعليمية نفسها.
أولاً: التحديات العامة المشتركة
- الإرث الثقيل للنظام السابق
- التعليم ما زال يحمل عقلية التلقين والولاء السياسي بدل الإبداع والتفكير النقدي.
- مقاومة بعض الإدارات والمعلمين لأي تغيير لأنها نشأت في بيئة سلطوية جامدة.
الحل:
- إطلاق حوار وطني تربوي شامل لتغيير الثقافة التعليمية.
- اعتماد برامج تدريبية لإعادة تأهيل الكوادر فكرياً ومهنياً.
- ضعف التمويل والبنية التحتية
- مدارس مهدمة أو غير صالحة، نقص في التجهيزات والمخابر، وضعف الأجور.
- الجامعات تفتقر إلى تمويل البحث العلمي والمكتبات والمعدات الحديثة.
الحل:
- تخصيص نسبة ثابتة من الموازنة الوطنية للتعليم (لا تقل عن 20%).
- فتح الباب أمام الشراكات مع القطاع الخاص والمجتمع المدني في بناء المدارس وتمويل المشاريع البحثية.
- إنشاء صندوق وطني لدعم التعليم بإشراف مستقل.
- نقص الكفاءات البشرية المؤهلة
- هجرة آلاف المعلمين والأكاديميين الأكفاء خلال سنوات الحرب.
- ضعف برامج إعداد المعلمين وعدم وجود حوافز مهنية.
الحل:
- إطلاق برنامج وطني لاستعادة الكفاءات المهاجرة.
- إنشاء أكاديمية وطنية لإعداد وتأهيل المعلمين.
- ربط الأجور بالحوافز والأداء، لا بالأقدمية فقط.
- تسييس التعليم وغياب الاستقلال الأكاديمي
- ما زالت بعض المؤسسات تخضع للتوجيه الحزبي أو الأمني.
- الجامعات لا تتمتع بحرية أكاديمية أو إدارية.
الحل:
- إصدار قانون استقلال الجامعات والمؤسسات التربوية.
- إنشاء مجلس وطني للتربية والتعليم مستقل عن السلطة التنفيذية.
- عدم مواءمة التعليم مع سوق العمل
- المناهج الجامعية تقليدية، ولا تواكب التطور العلمي أو احتياجات الاقتصاد.
- التخصصات النظرية تهيمن على التعليم العالي.
الحل:
- مراجعة شاملة للمناهج لتضم المهارات التقنية والرقمية وريادة الأعمال.
- تفعيل التعليم المهني والتقني كخيار حقيقي لا ثانوي.
- إشراك القطاع الخاص في تحديد احتياجات السوق وتوجيه التعليم.
ثانياً: تحديات خاصة بالتربية والمدارس
- تفاوت مستوى التعليم بين المناطق
- مناطق كانت محررة، أخرى مدمّرة، وأخرى تحت سلطات مختلفة، ما يؤدي إلى فوضى المناهج والاعتراف بالشهادات.
الحل:
- توحيد المناهج بإشراف هيئة وطنية مستقلة.
- الاعتراف المتبادل بالمناهج وفق معايير وطنية موحدة.
- ضعف البيئة المدرسية
- الاكتظاظ، قلة الأنشطة، غياب الدعم النفسي والاجتماعي للطلاب بعد الحرب.
الحل:
- خفض الكثافة الصفية.
- تعيين مرشدين اجتماعيين ونفسيين في كل مدرسة.
- إدخال أنشطة الحياة والمهارات الاجتماعية ضمن الخطة الدراسية.
ثالثاً: تحديات التعليم الجامعي
- تدني جودة التعليم والبحث العلمي
- ضعف المناهج، غياب التقويم الموضوعي، قلة النشر العلمي.
الحل:
- اعتماد نظام ضمان جودة واعتماد أكاديمي وطني.
- دعم الأبحاث التطبيقية ذات الجدوى الاقتصادية والاجتماعية.
- البيروقراطية الإدارية
- القرارات البطيئة والمركزية المفرطة تعيق تطوير الجامعات.
الحل:
- منح الجامعات استقلالاً إدارياً ومالياً ضمن إطار رقابة قانونية.
- رقمنة الإدارة الجامعية لتسريع الإجراءات والشفافية.
رابعاً: التحديات التقنية والتحول الرقمي
- ضعف البنية التحتية للاتصال بالإنترنت.
- نقص مهارات المعلمين في استخدام التكنولوجيا التعليمية.
الحل:
- تبني استراتيجية وطنية للتحول الرقمي في التعليم.
- تدريب الكوادر على التعليم الإلكتروني.
- إنشاء منصات وطنية للتعليم المدمج والتقويم الرقمي.
خامساً: التحديات الاجتماعية والثقافية
- النظرة الدونية للتعليم المهني.
- الفقر الذي يدفع الأطفال لترك المدارس.
- ضعف الوعي بدور التعليم في التنمية.
الحل:
- حملات توعية وطنية بأهمية التعليم.
- دعم مالي للطلاب الفقراء عبر منح تعليمية.
- إدماج الأسر والمجتمع المحلي في دعم المدرسة والجامعة.
كيف تتصور شكل ومستقبل مجال التربية والتعليم والتعليم الجامعي بعد تنفيذ إصلاحات تشريعية حقيقية وشاملة؟
بعد تنفيذ إصلاحات تشريعية حقيقية وشاملة في مجال التربية والتعليم والتعليم الجامعي في سوريا، يمكن تصور مستقبل هذا القطاع كمنظومة حديثة، وطنية، عادلة، ومنتجة للمعرفة، لا مجرد مؤسسة لتلقين المعلومات.
أولاً: في مجال التربية والمدارس العامة
- مدرسة حرة وفاعلة في بناء الإنسان
- معلم محترف وذو مكانة رفيعة
- بنية مدرسية حديثة وجاذبة
- مناهج حديثة ومواكبة
ثانياً: في التعليم الثانوي
- تنويع المسارات التعليمية
- نظام قبول جامعي عادل وذكي
ثالثاً: في الجامعات والتعليم العالي
- جامعات مستقلة ومبدعة
- بحث علمي يخدم التنمية الوطنية
- عدالة أكاديمية وتكافؤ فرص
رابعاً: في الإدارة والسياسات التعليمية
- حوكمة تعليمية حديثة
- التعليم الرقمي والتحول التكنولوجي
خامساً: في العلاقة بين التعليم والمجتمع
- يصبح التعليم قاطرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، لا عبئاً على الدولة.
- ربط التعليم بسوق العمل
- . تعزيز الانتماء والهوية الوطنية الجامعة