قاعدة باغرام الجوية : أداة استراتيجية في التنافس الأمريكي الصيني في آسيا الوسطى.

تُجسد قاعدة باغرام الجوية في أفغانستان نموذجاً مركباً لتاريخ التدخلات الخارجية والتحولات الجيوسياسية في آسيا الوسطى،فقد شُيّدت القاعدة في خمسينيات القرن الماضي بدعم سوفيتي، ثم تحولت خلال الغزو

السوفيتي إلى نقطة انطلاق رئيسية للعمليات العسكرية قبل أن تصبح بعد الانسحاب ساحة مواجهة بين الفصائل الأفغانية.

 

لاحقاً أعادت الولايات المتحدة تأهيلها لتكون أكبر قاعدة عسكرية لها في البلاد حاملة معها رمزية الهيمنة الغربية، حيث انتشرت العلامات التجارية الأميركية والطعام الأميركي في مشهد يعكس تغلغل القوة الناعمة داخل

الفضاء العسكري.

 

الاهتمام الأميركي بالقاعدة كما عبّر عنه الرئيس دونالد ترامب منذ عام 2019 وتجدد في 2021، لا يرتبط فقط بالوظيفة العسكرية أو الاستخباراتية بل يتجاوز ذلك إلى اعتبارات استراتيجية أوسع، كما قال عضو الكونغرس

السابق مايكل والتز: “ما يقلقني حقًا هو موطئ القدم الاستراتيجي الذي نتخلى عنه في الفناء الخلفي لأعظم منافسي أمريكا”، في إشارة واضحة إلى الصين، فموقع باغرام شمال العاصمة الأفغانية كابول على مقربة

من إقليم شينغيانغ الصيني يمنحها أهمية في أي سيناريو محتمل لمواجهة عسكرية حول تايوان أو في قلب آسيا الوسطى.

 

ورغم أن القاعدة لم تُثبت فاعلية استخباراتية حاسمة فإن الولايات المتحدة تنظر إليها كمنصة محتملة لمراقبة النفوذ الصيني خاصة في ظل تفوق بكين في صناعة الرقائق الإلكترونية والمعادن النادرة ومنها الليثيوم

والنحاس والياقوت الأحمر والأسود التي تزخر بها الأراضي الأفغانية.

 

في هذا السياق لا تُقرأ باغرام كقاعدة منتهية الصلاحية بل كعقدة استراتيجية في سباق النفوذ بين واشنطن وبكين حيث تتقاطع الجغرافيا مع الاقتصاد والتاريخ مع المستقبل..

 

للقاعدة بعد جيوسياسي حيوي فهي تقع على مسافة زمنية قصيرة من الحدود الصينية وتحديدا المناطق التي يعتقد انها تضم منشآت نووية حساسة، هذا القرب يمنح واشنطن قدرة على مراقبة النشاطات العسكرية

الصينية هذا يعكس تفعيل ما يسمى بالأدبيات الأمنية “الطوق الجغرافي للردع” هذا المفهوم يرتبط بشكل أساسي بإعادة توزيع القوة حول مناطق التهديد المحتملة، إضافة لتوسيع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية في

آسيا الوسطى خصوصاً في ظل تمدد روسيا عبر منظمة الأمن الجماعي والصين عبر مشروع الحزام والطريق.

 

تصريحات ترامب تظهر ان القاعدة نقطة ارتكاز استراتيجية الردع الموسع ضد الصين، بالتالي وجود واشنطن يعزز من قدرتها على الردع النووي ويعيد التوازن في ظل تصاعد التهديد في بحر الصين الجنوبي.

ترامب لديه بعد آخر من استعادة القاعدة وهو البعد الرمزي والسياسي الداخلي عبر تصوير نفسه أنه يعيد الهيبة الأميركية ويصحح أخطاء الماضي هذا البعد الرمزي يُخاطب جمهورا داخليا يبحث عن استعادة القوة والنفوذ

الأميركيين ويعيد إنتاج الخطاب القومي في السياسة الخارجية.

 

القادة الأفغان ينظرون إلى مطالبة ترامب بالقاعدة من زاوية الهوية الوطنية لأن القواعد الأجنبية تمثل خرقاً في السيادة الوطنية وقد ترتبط باغرام بتاريخ الاحتلالات المتعاقبة كذلك ارتباطها بالذاكرة الشعبية بممارسات

التعذيب والاحتجاز خاصة مركز الاعتقال الذي اطلق عليه “غوانتانامو افغانستان”

بالتالي قبول قيادة طالبان بالطرح الأمريكي قد يعرض شرعية طالبان بين الأفغان للخطر، شرعية نظام الحكم إضافة للشرعية الدينية وسط الشعب الأفغاني.

 

تمثل قاعدة باغرام الجوية نقطة تقاطع استراتيجية بين الجغرافيا السياسية والرمزية العسكرية، حيث تتداخل فيها مصالح القوى الكبرى مع حساسيات السيادة الوطنية الأفغانية،إن إعادة طرحها في الخطاب الأميركي لا

سيما في سياق التنافس مع الصين يكشف عن تحول القواعد العسكرية من أدوات تشغيلية إلى رموز ردع ممتدة،وفي ظل تصاعد التوترات الإقليمية تظل باغرام عقدة مركزية في معادلة إعادة توزيع النفوذ في آسيا

الوسطى بما يعكس ديناميات الصراع الدولي وتحديات الداخل الأفغاني في آنٍ واحد.

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…
تصعد تركيا ضد إسرائيل عبر مقاطعة تجارية ودبلوماسية نشطة ودعم قانوني دولي، كما تعزز نفوذها الإنساني والجيوسياسي وتدفع نحو إقامة…

القائمة