التفاعلات الاقتصادية والسلوكية المحتملة بعد ستة أشهر من حذف الصفرين

تُعد عملية حذف الأصفار من العملة المحلية السورية إحدى أدوات إعادة التسمية النقدية التي تلجأ إليها الدول في حالات التضخم النقدي أو الاختلالات النقدية المزمنة وعلى الرغم من أن هذه الخطوة تبدو في ظاهرها إجراءً تقنيًا، إلا أن التجارب الدولية أظهرت أنّها غالبًا ما تُولّد سلسلة من التفاعلات الاقتصادية والسلوكية تمتد لعدة أشهر بعد التنفيذ، لتنعكس مباشرة على ثلاثة جوانب أساسية هي( استقرار هيكل الأسعار، بنية هيكل السوق، ومستوى الثقة بالعملة)  ومن هذا المنطلق تهدف هذه المقالة إلى تحليل السيناريوهات المحتملة خلال الأشهر الستة الأولى من تطبيق حذف الصفرين

 

الشهر الأول: صدمة الإعلان

 

يُعتبر الشهر الأول من إعلان حذف الصفرين الأكثر حساسية وتتجلى هذه الصدمة في عدة مسارات متداخلة:

  1. قفزة في الذهب والدولار

من اللحظة الأولى للإعلان وطرح العملة في السوق بل وحتى في الفترة التي تسبقه يُرجَّح أن يتجه جزء كبير من الجمهور إلى الملاذات الآمنة مثل الذهب والدولار وتخزين السلع الأساسية و هذا السلوك لا يعكس حاجة فعلية آنية بقدر ما يعكس توقعات تضخمية مستقبلية، حيث يُفسَّر قرار حذف الأصفار باعتباره إشارة على معالجة شكلية للأزمة النقدية بدلًا من كونه إصلاحًا ماليا وبالتالي يتولد لدى الأفراد دافع لتطبيق ما يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بـ التسعير الوقائي أي تخزين السلع والذهب تحسبًا لفقدان القوة الشرائية للأموال لاحقًا، وهو ما سيُسهم في خلق موجة تضخمية ذاتية التعزيز منذ لحظة الإعلان.

 

  1. ارتباك في هيكلية الأسعار وتشغيلٍ مزدوج للعملة (على القديمة الا على الجديدة)

 

خلال فترة سحب العملة القديمة ستُتداول العملة القديمة والجديدة معًا، ما يخلق حالة ازدواجية سعرية التجار غالبًا ما سيلجؤون إلى (قاعدة التقريب للأعلى) أي رفع السعر الجديد فوق المستوى الحسابي المباشر ما يؤدي إلى ارتفاع فعلي للأسعار يفوق مجرد التحويل الرقمي هذه الظاهرة رُصدت في حالات مماثلة، مثل تجربة تركيا عام 2005 حين اضطرت السلطات إلى إطلاق حملات توعية للحد من التضخم الانتقالي الناتج عن أخطاء أو مبالغات في التسعير (Akyüz, 2006)

 

  1. تعاظم نفوذ السوق السوداء وظهور سماسرة النقد

 

عند الإعلان عن حذف الأصفار والشروع في استبدال العملة القديمة بالجديدة، يُتوقّع أن يتجه الأفراد بشكل جماعي نحو المصارف لسحب مدخراتهم أو تحويلها إلى العملة الجديدة أو إلى ملاذات بديلة كالدولار والذهب هذا السلوك الجمعي سيولّد ضغطًا كبيرًا على النظام النقدي، بحيث ينشأ ما يُعرف في أزمة السيولة المادية نتيجة عدم كفاية النقد الورقي المتاح لتلبية الطلب المتزايد وسينعكس ذلك عمليًا في طوابير طويلة أمام المصارف وتراجع ملموس في حجم الأوراق النقدية المتداولة، وفي ظل هذا النقص، يتزايد الاعتماد على السوق الموازية حيث سيظهر ما يمكن تسميته (سماسرة نقد) يقومون بتوفير العملة الجديدة مقابل عمولات أو أسعار أعلى من قيمتها الاسمية ومع اتساع هذا النمط قد ينتقل مركز الثقل في التداول النقدي تدريجيًا من القنوات الرسمية إلى السوق غير الرسمية وهو ما يشكّل تهديدًا مباشرًا لاستقرار العملة الوطنية ولقدرة السلطة النقدية على ضبط السياسة المالية.

 

  1. الفجوة المكانية والتجزئة النقدية المدن مقابل الريف والمناطق الخارجة عن السيطرة

 

تُظهر المؤشرات أنّ التكيّف مع عملية حذف الأصفار سيكون متفاوتًا جغرافيًا واجتماعيًا ففي المدن الكبرى مثل دمشق وحلب واللاذقية، يُرجَّح أن يتم التكيّف بوتيرة أسرع نظرًا لوجود شبكة مصرفية أوسع وبنية تحتية مالية أكثر تطورًا تشمل المصارف والشركات ونقاط سحب الأموال من الصرفات أما في المناطق الريفية والمهمشة، فإن الاعتماد شبه الكامل على النقد الورقي في المعاملات اليومية وغياب أنظمة مصرفية فعّالة سيجعلان هذه المناطق أكثر عرضة للارتباك والخلل في التسعير.

يُضاف إلى ذلك أنّ المناطق الواقعة خارج سيطرة الدولة ستشهد تعقيدات إضافية، إذ تميل بعض هذه المناطق أصلًا إلى استخدام عملات بديلة كالليرة التركية أو الدولار، ما يرسّخ حالة من التجزئة النقدية وفي ظل هذه الظروف، قد يتأخر أصحاب المحلات والأسواق الشعبية في تبنّي الأسعار الجديدة بما يفتح المجال أمام ممارسات استغلالية مثل رفع الأسعار تحت ذريعة ( إعادة التسعير) أو الخلط المتعمد بين  الليرة القديمة  و الليرة الجديدة  وتؤدي هذه الديناميات مجتمعة إلى تعميق فجوة عدم المساواة بين المركز والأطراف وبين المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة وتلك الخارجة عنها، الأمر الذي يضعف الثقة العامة بالعملية النقدية برمتها.

 

 

الشهران الثاني والثالث: اقتصاد مزدوج واتساع غير رسمي

 

خلال هذه المرحلة، يُتوقّع أن يتبلور ما يمكن تسميته بـ الاقتصاد المزدوج، حيث تبقى آثار الارتباك النقدي حاضرة وتزداد حدة الفوارق بين الرسمي وغير الرسمي:

 

  1. تعاظم دور التجزئة النقدية المناطقية لصالح هيمنة العملة التركية والدولار

 

في هذه المرحلة، من المرجّح أن يزداد اعتماد بعض المناطق على عملات أجنبية بديلة ما سيعكس حالة من التفكك النقدي داخل الجغرافيا السورية ففي شمال غرب سورية حيث تستخدم الليرة التركية في كل المعاملات اليومية ستتعزز عمليات التسعير والتبني بها باعتبارها أكثر استقرارًا نسبيًا من الليرة الجديدة أما في شمال شرق سورية فستزداد هيمنة الدولار سواء في تسعير السلع الأساسية أو في عقود التجارة والنقل هذا التوسع في استخدام العملات الأجنبية يعني أن التجزئة النقدية ستترسخ أكثر بحيث تصبح كل منطقة اقتصادية أقرب إلى (جغرافية نقدية) تعتمد عملة مختلفة عن الأخرى وفي ظل غياب قدرة الدولة على فرض عملتها على كامل التراب ستفقد الليرة الجديدة قدرتها على أداء وظائفها الثلاث (مخزن للقيمة، وسيلة للتبادل، وحدة للحساب) في جزء واسع من الاقتصاد والنتيجة المتوقعة هي تآكل السيادة النقدية وتراجع قدرة السياسة النقدية الرسمية على التأثير في النشاط الاقتصادي ككل.

 

  1. تكاليف الانتقال وإعادة تكييف الالتزامات والعقود طويلة الأمد

 

سلسلة التعديلات المالية والإدارية ستفرض أعباءً إضافية على المؤسسات والأفراد فمع بداية المرحلة الجديدة ستجد الشركات نفسها مضطرة إلى تحديث أنظمتها المحاسبية وإعادة تكييف برامجها المالية وهو ما يستلزم تخصيص موارد إضافية سواء عبر فرق عمل متخصصة أو عبر تحديث البرمجيات والأدوات المستخدمة أما المؤسسات الصغيرة التي غالبًا ما تعتمد على الدفاتر اليدوية أو البرامج البسيطة فستواجه صعوبات مضاعفة في التكيف مع هذا التحول ولا يقتصر العبء على الجوانب المحاسبية بل يمتد أيضًا إلى أنظمة الدفع ونقاط البيع التي تحتاج إلى إعادة برمجة شاملة، إضافة إلى تدريب الموظفين وربما استبدال بعض الأجهزة غير المتوافقة مع النظام الجديد كما يتعين على التجار والشركات إعادة صياغة العقود والاتفاقيات التجارية والمالية بما في ذلك عقود الإيجار والتوريد والقروض ما يزيد من احتمالية حدوث خلافات قانونية حول تفسير الأسعار أو الأقساط بين العملة القديمة والجديدة هذه التكاليف المباشرة لا تبقى حبيسة المؤسسات بل ستُرحَّل إلى المستهلك النهائي وهو ما سيؤدي إلى نشوء ما يُعرف في موجة التضخم الانتقالي

 

الشهر 4–6 ترسيخ النتائج نجاح مشروط أو فشل مُكلف

 

في هذه المرحلة تبدأ ملامح العملية بالاتضاح تدريجيًا حيث يتحدد المسار النهائي بين خيارين متناقضين: نجاح مشروط أو فشل مُكلف ففي حال غياب إصلاحات اقتصادية ونقدية موازية يُتوقع أن يظل معدل التضخم مرتفعًا ومتذبذبًا، مع اتساع الفجوة بين السعر الرسمي والموازي الأمر الذي يؤدي إلى فقدان الليرة الجديدة جزءًا كبيرًا من رأسمالها المعنوي بسرعة وهو ما وثّقته تجارب دولية فاشلة حين استُخدمت إعادة التسمية كحل تجميلي لا أكثر أما إذا توافرت جملة من الشروط المؤسسية والإجرائية، فقد يتحسن المسار تدريجيًا وتشمل هذه الشروط ( توحيد السلطة النقدية وربطها بسياسة سعر صرف متسقة، اعتماد خطة تواصل شفافة مع الجمهور مقرونة بفترة استبدال كافية، ضمان الودائع وتعويض الأخطاء في التسعير، تشديد الرقابة على الاحتكار والمضاربة، إضافة إلى تقديم حوافز مالية لإعادة الودائع إلى النظام المصرفي عبر فوائد مجزية مؤقتة أو إعفاءات من الرسوم) كما يتطلب النجاح وضع حزمة مالية متكاملة تهدف إلى ضبط عجز الموازنة ومنع الاعتماد على التمويل النقدي بهذا المعنى فإن نجاح الليرة الجديدة ليس ناتجًا عن حذف الأصفار بحد ذاته بل عن مدى قدرة الدولة على ربط هذه الخطوة ببرنامج استقرار شامل وإصلاحات مؤسسية عميقة.

 

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…
تصعد تركيا ضد إسرائيل عبر مقاطعة تجارية ودبلوماسية نشطة ودعم قانوني دولي، كما تعزز نفوذها الإنساني والجيوسياسي وتدفع نحو إقامة…

القائمة