مقدمة :
لم يكن الاحتفال الذي قادته بكين بالذكرى الـ80 لهزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية مجرد مناسبة بروتوكولية لإحياء حدث تاريخي، بل حمل في طياته أبعادًا سياسية ورسائل استراتيجية مركّبة. فمن خلال مشهدية العرض العسكري
الضخم، والحضور الدولي اللافت لكل من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون، ومن ثم ردود الفعل الأمريكية، بدا الاحتفال وكأنه منصة لإعادة رسم خطوط التوازنات الجيوسياسية في النظام الدولي
الراهن.
أولًا: استعراض القوة :
شكل العرض العسكري محورًا رئيسيًا للاحتفال، حيث حرصت بكين على إبراز قدراتها الدفاعية المتنامية، عبر التركيز على الأسلحة الحديثة والصناعات العسكرية المحلية. وقد حمل هذا الاستعراض رسالتين أساسيتين:
- رسالة ردع لليابان: في ظل إعادة طوكيو تسليح نفسها تدريجيًا تحت المظلة الأمريكية، جاء الاستعراض الصيني بمثابة تذكير بأنها الوريث الشرعي لانتصار الحرب العالمية الثانية في شرق آسيا.
- تعزيز الشرعية الوطنية داخليًا: العروض العسكرية، في السياق السياسي الصيني، ليست مجرد استعراض رمزي، بل وسيلة لربط شرعية الحزب الشيوعي بالانتصارات التاريخية وبحماية “الكرامة الوطنية”، بما يعزز التماسك القومي في مواجهة الضغوط الخارجية.
ثانيًا: الرسالة السياسية للغرب :
الخطاب السياسي المرافق للاحتفال عكس إصرار بكين على أن الصين لا تسعى للحرب، لكنها في الوقت ذاته لن تسمح بمحاصرتها أو تقييد نفوذها.
- للولايات المتحدة وحلفائها: كان الاحتفال إعلانًا بأن الصين قادرة على حماية مصالحها، وأن أي محاولات لفرض طوق استراتيجي في بحر الصين الجنوبي أو حول تايوان لن تمر دون تكلفة.
- إعادة صياغة السردية التاريخية: من خلال الاحتفاء بالنصر على اليابان، أكدت الصين أنها ليست قوة صاعدة فقط، بل طرف تاريخي أصيل في الانتصار على الفاشية، ومن ثم فهي شريك شرعي في صياغة النظام الدولي الجديد، بما ينزع عن الغرب احتكاره لخطاب “الشرعية الدولية”.
ثالثًا: حضور بوتين وكيم جونغ أون – رمزية المحور الجديد :
لم يكن حضور الرئيس الروسي والزعيم الكوري الشمالي إلى بكين مجرد مشاركة بروتوكولية، بل حمل دلالات استراتيجية عميقة:
- بوتين: سعى إلى تأكيد أن روسيا ليست معزولة رغم العقوبات الغربية والحرب في أوكرانيا.
- كيم جونغ أون: أراد إظهار أن كوريا الشمالية ليست “دولة منبوذة”، بل جزء من محور أوسع يتحدى الهيمنة الغربية.
- شي جين بينغ: قدّم نفسه قائدًا لتكتل غير معلن، مستفيدًا من رمزية “الانتصار على الفاشية” لتأطير تحالفه الجديد بوصفه استمرارًا لمعركة ضد الإمبريالية.
بهذا، شكّل الحضور الثلاثي إعلانًا ضمنيًا عن قدرة بكين على جمع القوى المناهضة للغرب في مشهد واحد، بما يوحي بتبلور محور مضاد للهيمنة الأمريكية.
رابعًا: قراءة في تصريح ترامب :
وصف الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الاجتماع بأنه “مؤامرة على أمريكا”. ورغم طابعه الشعبوي، فإن التصريح التقط جوهر الحقيقة:
- الصين تقف على خط مواجهة مباشر مع واشنطن في قضية تايوان وبحر الصين الجنوبي.
- روسيا تخوض صراعًا مفتوحًا مع الناتو في أوكرانيا.
- كوريا الشمالية تمثل تهديدًا استراتيجيًا لحلفاء واشنطن في شرق آسيا.
من هنا، فإن مجرد اجتماع هؤلاء القادة في احتفال واحد يمثل في الوعي الأمريكي تلاقي جبهات التحدي في صورة “تحالف رمزي”، وهو ما يتناقض مع الاستراتيجية الأمريكية القائمة على تفكيك الخصوم لا جمعهم.
الخلاصة :
يمكن القول إن احتفال بكين بالذكرى الـ80 لهزيمة اليابان كان مزيجًا مدروسًا بين استعراض للقوة ورسائل سياسية مركبة.
- داخليًا: لتعزيز شرعية الحزب الشيوعي وترسيخ القومية الصينية.
- خارجيًا: لتأكيد أن الصين قوة راسخة تاريخيًا، لا يمكن تجاوزها في صياغة النظام الدولي.
- أما على المستوى الجيوسياسي، فإن حضور بوتين وكيم، والقراءة الأمريكية لذلك المشهد، أضفى على الاحتفال بُعدًا إضافيًا، تمثل في ظهور محور مضاد للغرب، ولو بشكل رمزي غير معلن. وهو ما يعكس حقيقة أن بكين لم تعد
- تتحرك كقوة منفردة، بل كقاطرة لتحالف أوسع يعيد تشكيل خرائط القوة في القرن الحادي والعشرين.