هوية الدولة بين التنوع المشروع والتفكك المرفوض

في كل مرة تفتح سوريا باب النقاش حول التعددية، يعود السؤال الأهم إلى الواجهة: هل التعددية تعني أن تتخلى الدولة عن هويتها الحضارية، حتى تُرضي الأقليات؟

وهل احترام التنوع الثقافي يقتضي بالضرورة مسح الطابع العربي الإسلامي للمجتمع السوري؟

في الواقع، هذا الطرح ليس بريئاً ولا عابراً ، بل يعكس إعادة إنتاج خطاب التمرد القومي الناعم، الذي يحاول تحت عناوين مثل “التعددية” و”الحياد الديني” و”المواطنة”، أن يُفرّغ الدولة من عمقها التاريخي، ويروّج لهوية هجينة لا تنتمي لأحد ، وكثيراً ما نسمع من بعض الأصوات القومية أو الثقافية تساؤلات مثل:

كيف نعيش مع شعب ملتحٍ؟

أو كيف نتقبل أن تكون الدولة اسمها الجمهورية (العربية) السورية؟

وكأن المشكلة ليست في الحقوق، بل في هوية الشعب السوري ذاته أو أن التنوع لا يُحتمل إلا إذا تخلّت الأكثرية عن دينها ولغتها وثقافتها!

ويذهب هؤلاء إلى أبعد من ذلك، متسائلين – بصيغة اعتراضية – كيف يمكن لقوميات وتنوعات ثقافية أن تعيش مع شعب متمسك بدينه، وبهويته، وبلغته، وبتقاليده الحضارية المتجذرة في العروبة والإسلام ؟

من قال إن على الدولة أن تنسلخ عن دينها وقيمها؟ ومن رسّخ في الوعي الجمعي لتلك الجماعات أن الحياد يعني التفريغ القيمي، أو أن التعددية تعني العلمنة القسرية؟

الحقيقة أن هذه الرؤية لا تستند إلى أي مرجعية ديمقراطية محترمة فلا توجد ديمقراطية في العالم تجبر الأغلبية على التنكّر لثقافتها لإرضاء الأقليات ولا توجد دولة تحذف مرجعياتها التاريخية كي تنال “رضى القوميات”.

حتى أن المفكر الليبرالي الكندي ويل كيمليكا، المعروف بدفاعه عن حقوق الأقليات الثقافية، يميز بوضوح بين “حقوق الجماعات” و”حقوق الدولة”، ويؤكد أن التعددية لا تعني نزع الهوية الجمعية، بل تنظيم التنوع ضمن إطارها.

أما المفكر الأمريكي صموئيل هنتنغتون، فقد حذّر في كتابه “صدام الحضارات”، من تفكيك الهويات الوطنية بحجة العولمة أو التعدد، وشدد على أن الدولة لا يمكن أن تستمر ككيان موحّد إن أُجبرت على التفريط بهويتها لصالح مطالب غير

منسجمة مع تاريخها أو أغلبية شعبها.

 

الحقوق شيء والامتيازات شيء آخر:

 

فالأقليات في سوريا يجب أن تنال كامل حقوقها، وفق الدستور، لا أكثر ولا أقل

أما فرض الشروط على هوية الدولة، أو تحويل التعددية إلى منصة لمهاجمة الأغلبية وطمس هويتها، فهذا سلوك استعلائي خطير، لا يمكن القبول به.

 

ما يُطرح أحيانًا تحت عنوان “تحييد الدولة دينياً وثقافياً”، ليس إلا محاولة لإزاحة الأغلبية عن مركزها الحضاري، واستبداله بخطاب مرجعي هجين، لا جذور له وهذا بالضبط ما يحصل حين يتم الهجوم على الرموز الثقافية والدينية الإسلامية،

تحت ذرائع كاذبة، بينما يُسمح برفع كل شعارات الطوائف والأقليات الأخرى دون اعتراض.

 

إننا اليوم أمام مفارقة صارخة:

 

يطالبون الدولة باحترام تنوعهم، بينما يرفضون احترام هوية الشعب السوري نفسه ، يطالبون بالتعددية، لكن بشروطهم هم، لا بشروط العقد الوطني الجامع !

سوريا، بتاريخها العربي والإسلامي، لن تُختزل إلى فسيفساء ممسوخة ترضي نزعات أقلوية حساسة والأغلبية فيها ليست متّهمة، وليست بحاجة إلى إثبات حسن النية ، بل على الجميع أن يفهم أن العيش المشترك لا يعني إذابة

الأكثرية، ولا القبول بابتزاز ناعم باسم الأقليات ، فالتعددية الحقيقية تقوم على احترام الهوية الجامعة أولاً ، ثم ضمان الخصوصيات في إطار تلك الهوية، لا العكس.

 

أخيراً:

إننا أمام أزمة فهم للتعددية، تُراد فيها من الأغلبية أن تتنازل عن ذاتها كي تقنع الأقلية بالعيش معها! وهذا ليس حلاً ديمقراطياً … بل وصفة لانفجار اجتماعي وصدام هوياتي مؤجل فعلى من يطرحون هذه الأسئلة أن يعيدوا

صياغتها ضمن منطق وطني متزن، لا تحت منطق الامتعاض من الدين، ولا الغضب من العروبة، ولا الحساسية من الأغلبية ، فمن أراد حقوقه، فليحترم هوية الدولة… ومن أراد الفتنة، فلن يجد له موطئ قدم إلا على هوامش التاريخ.

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…
تصعد تركيا ضد إسرائيل عبر مقاطعة تجارية ودبلوماسية نشطة ودعم قانوني دولي، كما تعزز نفوذها الإنساني والجيوسياسي وتدفع نحو إقامة…

القائمة