أفرزت الحرب السورية الممتدة منذ عام 2011 وحتى اليوم، واحدة من أعقد الكوارث الإنسانية والسياسية في العالم المعاصر. فإلى جانب مئات آلاف القتلى والمفقودين، نتج عنها دمار واسع للبنية التحتية، نزوح داخلي قارب نصف السكان، وتشريد ملايين اللاجئين إلى الخارج، هذه المآسي وضعت سؤال التعويض وجبر الضرر في قلب النقاشات القانونية والسياسية: من يتحمل مسؤولية جبر ضرر الضحايا؟ الدولة السورية التي شارك نظامها بشكل مباشر في الانتهاكات؟ أم المجتمع الدولي الذي اكتفى بتصريحات الإدانة دون حلول جذرية؟
أسعى من خلال هذه المقالة إلى تناول قضية التعويض وجبر الضرر لضحايا الحرب السورية من منظور أكاديمي تحليلي.
أولًا: الإطار القانوني لمفهوم التعويض وجبر الضرر
التعويض في الفقه القانوني هو إعادة الحال إلى ما كان عليه قبل وقوع الضرر قدر المستطاع، سواء عبر التعويض المالي، أو إعادة الممتلكات، أو ضمان الرعاية الصحية والاجتماعية والنفسية للضحايا. وقد كرّس القانون الدولي هذا المبدأ من خلال:
1. الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (1948)، الذي أكد حق كل إنسان في الحصول على سبيل انتصاف فعال أمام السلطات الوطنية المختصة.
3. مبادئ الأمم المتحدة بشأن الحق في الانتصاف وجبر الضرر لضحايا الانتهاكات الجسيمة (2005)، والتي نصّت على أشكال متعددة لجبر الضرر: التعويض المالي، رد الحقوق، التأهيل، وضمانات عدم التكرار.
وعلى المستوى الوطني، تُعد الدولة صاحبة الاختصاص الأول في تنظيم آليات التعويض ضمن تشريعاتها الداخلية، سواء عبر القضاء أو من خلال برامج وطنية للعدالة الانتقالية. لكن عندما تتحول الدولة نفسها إلى طرف منتهك، كما في الحالة السورية، يطرح ذلك معضلة جوهرية حول شرعية تحميلها المسؤولية وقدرتها على تنفيذ التزاماتها بحبر الضرر والتعويض للضحايا.
ثانيًا: مسؤولية الدولة السورية
تتحمل الدولة، وفق قواعد القانون الدولي العام، المسؤولية الأولى عن جبر الضرر الناتج عن أفعالها أو عن الأفعال التي ارتكبتها سلطاتها وأجهزتها الأمنية والعسكري، وفي الحالة السورية يمكن تمييز عدة مستويات من المسؤولية:
1. المسؤولية المباشرة: النظام السوري متهم بارتكاب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما فيها جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب، كالقصف العشوائي، استخدام الأسلحة المحرمة والكيماوية، والاعتقال التعسفي، هذه الانتهاكات تولّد التزامًا مباشرًا على الدولة بالتعويض.
2. المسؤولية عن العجز: حتى في الحالات التي ارتكبت فيها الانتهاكات من قبل أطراف غير حكومية (مليشيات أو جماعات مسلحة)، فإن الدولة تتحمل المسؤولية لعدم قدرتها أو رغبتها في حماية مواطنيها.
3. المسؤولية الدستورية: من الناحية النظرية، الدستور السوري يكفل حقوق الملكية والحرية الشخصية، ما يضع على عاتق الدولة التزامًا مضاعفًا بإعادة هذه الحقوق للضحايا، غير أن الواقع السياسي الحالي يعكس غياب الإرادة، ما يجعل التعويل على الدولة وحدها غير واقعي في المدى المنظور.
لكن في الوضع السوري وسقوط النظام البائد يزداد الأمر تعقيداً في تحمل الدولة المسؤولية الكاملة، لا سيما وأنها ترمم ما خلفه النظام البائد بمؤسساته وميليشياته انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان.
ثالثًا: دور المجتمع الدولي
في ظل عجز الدولة السورية عن القيام بواجبها، تطرح مسؤولية المجتمع الدولي نفسها كبديل أو مكمل، ويمكن حصر دوره في المحاور الآتية:
1. المسؤولية الأخلاقية: المجتمع الدولي فشل في حماية المدنيين السوريين من الفظائع الجماعية، رغم وجود مبدأ “مسؤولية الحماية” (R2P) الذي أُقر في قمة الأمم المتحدة عام 2005. هذا يفرض عليه واجبًا أخلاقيًا في تعويض الضحايا.
2. المسؤولية القانونية غير المباشرة: لا يترتب التزام قانوني مباشر على الأمم المتحدة أو الدول الأخرى بتعويض الضحايا إلا إذا ثبت تورطها في دعم طرف من أطراف النزاع، ومع ذلك، يمكن من خلال قرارات أممية أو صناديق دولية خاصة تمويل برامج جبر الضرر.
3. آليات العدالة الدولية: المحاكم الدولية الخاصة أو المحاكم الوطنية ذات الولاية العالمية يمكن أن تصدر أحكامًا بالتعويض، إلا أن تنفيذ هذه الأحكام يظل مرهونًا بآليات التمويل الدولي وضمانات التعاون بين الدول.
4. برامج إعادة الإعمار: يُنظر إلى إعادة الإعمار على أنها شكل من أشكال جبر الضرر الجماعي، إذا ما ارتبطت بتعويض الأفراد وإعادة توطين النازحين واللاجئين، هنا يتعين على المجتمع الدولي أن يشترط في مساهماته ضمان توجيه الموارد لتعويض المتضررين وليس فقط لإعادة بناء الدولة بمؤسساتها القديمة.
رابعًا: التحديات التي تواجه الدولة في جبر الضرر
رغم وضوح المبدأ القانوني فإن تطبيقه في الحالة السورية يصطدم بعدة عوائق:
1. غياب الإحصاءات الدقيقة: أعداد الضحايا والمفقودين غير موثقة بشكل رسمي، ما يصعّب تحديد المستفيدين من التعويض، لكن رغم ذلك فإن الغالبية غير مجهولين، والسعي وراء معرفتهم ليس بالمستحيل.
2. تعدد الأطراف المنتهِكة: ليس النظام وحده المتهم، بل أيضًا الميليشيات الأجنبية، وحتى بعض القوى الدولية. هذا يخلق شبكة معقدة من المسؤوليات يصعب حصرها.
3. الأولويات السياسية: غالبًا ما يتم ربط ملف التعويضات بالتسويات السياسية الكبرى ما يؤخر إنصاف الضحايا إلى أجل غير معلوم.
خامسًا: الاحتمالات المستقبلية
يمكن تصور ثلاثة احتمالات رئيسية لمستقبل التعويض في سوريا:
1. مسؤولية الدولة أولًا: إن الدولة هي الجهة الأولى المسؤولة عن تأسيس برامج وطنية للتعويض، مع دعم دولي.
2. صناديق دولية مستقلة: قد ينشأ صندوق بإشراف الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي لتعويض الضحايا، خاصة اللاجئين والنازحين في الخارج، وهو خيار عملي لكنه يحتاج توافقًا سياسيًا دولياً.
3. مزيج تكاملي: يتم إشراك الدولة والمجتمع الدولي معًا، بحيث تتحمل الدولة المسؤولية القانونية، بينما يساهم المجتمع الدولي بالتمويل والدعم الفني، لعدم قدرة الدولة السورية بالتعويض على أكمل وجه.
في الختام: أرى أن قضية التعويض وجبر الضرر لضحايا الحرب السورية ليست مجرد إجراء قانوني أو مالي، بل هي ركن أساسي من أركان العدالة الانتقالية وبناء السلام المستدام. فالتعويض لا يقتصر على دفع مبالغ مالية، بل يشمل إعادة الاعتبار، رد الحقوق، وضمانات عدم التكرار.
وبالنظر إلى تورط النظام السوري وعجزه عن القيام بواجباته، فإن المجتمع الدولي مطالب بالانشغال بدور محوري، ليس فقط عبر المساعدات الإنسانية المؤقتة، بل عبر إنشاء آليات مؤسسية لجبر الضرر، بالتوازي مع أي عملية سياسية مستقبلية، وفي النهاية، فإن تحقيق العدالة للضحايا سيظل معيارًا رئيسيًا لنجاح أي تسوية سياسية في سوريا، وشرطًا أساسيًا لإعادة بناء الثقة بين الدولة والمجتمع.