في عالم السياسة الدولية تُعتبر العقوبات أداة قوية تستخدمها الدول أو المنظمات الدولية للضغط على الأنظمة السياسية بهدف تحقيق تغييرات معينة. ورغم أن العقوبات تستهدف في المقام الأول الحكومات والقيادات
إلا أن آثارها لا تتوقف عند هذا الحد، بل تتسلل لتصيب القطاعات الاقتصادية والاجتماعية وحتى الإنسانية وفي حالة سوريا كانت العقوبات الدولية أحد أبرز الأدوات التي تسببت بتعقيد المشهد الاقتصادي في ظل الثورة
السورية منذ عام 2011، حيث فُرضت عقوبات عديدة على سوريا شملت تجميد الأرصدة وحظر التعامل مع مؤسسات مالية دولية والحد من تصدير بعض السلع الأساسية، مما أثر بشكل كبير على قدرة الدولة السورية
على تحريك عجلة الاقتصاد، ووقف في كثير من الأحيان عند حدٍ شبيه بما تمر به البنية التحتية.
المبحث الأول
الإطار العام للعقوبات الدولية وسياقها السوري
تُعد العقوبات الدولية واحدة من أبرز أدوات الضغط السياسي التي تلجأ إليها الدول والمنظمات الدولية للحد من سلوكيات تُعتبر تهديداً للسلم والأمن الدوليين أو انتهاكاً لحقوق الإنسان. وقد تطورت هذه الأداة على مر
العقود لتشمل أشكالاً متعددة من العقوبات، تراوحت بين العقوبات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتنوعت في شمولها وتأثيرها بين العقوبات العامة والموجهة (الذكية).
ومنذ اندلاع الثورة السورية عام 2011، كانت العقوبات جزءاً أساسياً من استراتيجية المجتمع الدولي تجاه النظام بشار الأسد، حيث فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ودول أخرى مجموعة واسعة من العقوبات
على كيانات وأفراد ومؤسسات، وذلك في محاولة للضغط من أجل انتقال سياسي ووقف الانتهاكات. وقد تزامن ذلك مع تغيّرات داخلية عميقة في بنية النظام السياسي السوري، وظهور قوى جديدة فاعلة في الساحة
السياسية والعسكرية، ما أثر في طريقة تعاطي المجتمع الدولي مع الملف السوري.
ومع ذلك، شهدت المرحلة الأخيرة تطوراً لافتاً تمثل في قيام بعض الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، برفع أو تخفيف قسم من العقوبات المفروضة على سوريا، وهو ما يفتح باب التساؤل حول دلالات هذا التحول هل
يعكس تغيّراً في أولويات السياسة الخارجية؟ أم أنه استجابة لضرورات إنسانية واقتصادية فرضتها المتغيرات الإقليمية والدولية؟
انطلاقاً من هذا السياق يسعى هذا المبحث إلى بناء إطار نظري متكامل لفهم العقوبات الدولية من حيث مفهومها وأهدافها وأنواعها، مع تسليط الضوء على العقوبات المفروضة على سوريا ومراحل تطورها، ثم تحليل أثر
التحولات السياسية التي شهدتها البلاد بعد الثورة على طبيعة العقوبات والمواقف الدولية، بما في ذلك المستجدات الأخيرة المرتبطة بتخفيف بعض هذه العقوبات.
المطلب الأول: مفهوم العقوبات الدولية وأنواعها
أولاً: تعريف العقوبات الدولية وأهدافها
تكثر التعريفات حول معنى العقوبات الدولية. ومن هذه التعريفات نذكر:
العقوبات الدولية هي إجراءات قسرية تتخذها دولة أو مجموعة من الدول أو منظمات دولية تهدف إلى التأثير على سلوك دولة أو طرف غير حكومي، بغرض دفعه إلى الامتثال للمعايير الدولية أو القرارات الصادرة عن
الهيئات الدولية. وتُعدّ أداة من أدوات السياسة الخارجية يُراد بها تحقيق أهداف سياسية أو قانونية دون اللجوء إلى القوة العسكرية.
وقد عرفها ريتشارد هاس (Richard N. Haass) بأنها
أداة من أدوات السياسة الخارجية تستخدم لإجبار، أو ردع، أو معاقبة دولة، أو جهة فاعلة عبر تقييد تعاملها الاقتصادي أو السياسي أو العسكري مع الأطراف الأخر.
أما في السياق القانوني الدولي فقد عرفتها لجنة القانون الدولي في الأمم المتحدة بأنها
تدابير غير عسكرية تتخذها الدول بشكل جماعي أو فردي ضد دولة منتهكة للقانون الدولي بهدف دفعها لاحترام التزاماتها الدولية. ([1])
أهداف العقوبات الدولية:
- تعديل سلوك الدولة المستهدفة
الهدف الأساسي للعقوبات هو إحداث تغيير في سياسات أو سلوك الدولة المعنية كوقف انتهاكات حقوق الإنسان أو احترام قرارات مجلس الأمن أو وقف دعم الإرهاب.
- الردع
تستخدم العقوبات كوسيلة لردع دول أخرى عن انتهاج سلوك مشابه لما قامت به الدولة المستهدفة أي إرسال رسالة تحذيرية للمجتمع الدولي.
- المعاقبة
تُستخدم أحيانًا لمعاقبة دول أو أنظمة ارتكبت انتهاكات خطيرة، خاصة في حالات الإبادة الجماعية أو العدوان أو القمع السياسي.
- التضييق على القدرات
تهدف بعض العقوبات إلى إضعاف قدرات الدولة المستهدفة كمنعها من شراء الأسلحة أو الوصول إلى الأسواق العالمية أو النظام المالي الدولي.
- تحقيق أهداف رمزية وسياسية
قد تكون العقوبات تعبيرًا عن موقف أخلاقي أو سياسي من سلوك معين حتى وإن لم يكن لها أثر عملي كبير.
ثانياً: أنواع العقوبات (اقتصادية، سياسية، عسكرية، موجهة)
تتنوع العقوبات الدولية من حيث طبيعتها ومداها وفقًا للهدف المراد تحقيقه ومدى التزام المجتمع الدولي بها. وقد تطورت هذه العقوبات من الإجراءات الشاملة التي تطال الدولة ككل إلى ما يُعرف بالعقوبات الذكية أو
الموجهة التي تستهدف أفراداً أو كيانات بعينها لتقليل الآثار الإنسانية والاجتماعية السلبية.
العقوبات الاقتصادية
تشمل القيود المفروضة على التجارة، والاستثمار، والتحويلات المالية، وقطع العلاقات الاقتصادية، بهدف إضعاف الاقتصاد المحلي للدولة المستهدفة، ودفعها لتغيير سلوكها السياسي أو الامتثال للمعايير الدولية.
مثال: حظر تصدير التكنولوجيا أو المواد الخام أو السلع الحيوية.
العقوبات السياسية
تتضمن تجميد العلاقات الدبلوماسية، أو تعليق عضوية الدولة في المنظمات الدولية، أو فرض عزلة دبلوماسية، وتهدف إلى عزل النظام دوليًا والضغط عليه سياسيًا.
مثال: تجميد عضوية جنوب أفريقيا في بعض المنظمات الدولية خلال فترة الفصل العنصري.
العقوبات العسكرية
تشمل حظر تصدير السلاح، أو المعدات العسكرية، أو فرض حظر جوي، أو بحري، وتُستخدم عادة في الحالات التي يُخشى فيها من استخدام القوة ضد المدنيين أو تهديد السلم الدولي.
مثال: حظر الأسلحة على ليبيا عام 2011 بموجب قرار مجلس الأمن 1970.
العقوبات الموجهة (الذكية)
وتُعرف أيضاً بالعقوبات الانتقائية وهي التي تُفرض على أفراد أو كيانات محددة كقادة سياسيين، شركات، مصارف بهدف تقليل الأثر على السكان المدنيين، وتجنب النتائج السلبية للعقوبات الشاملة.
مثال: تجميد أصول مسؤولين حكوميين أو منعهم من السفر. ([2])
المطلب الثاني: العقوبات المفروضة على سوريا والتحول السياسي
أولاً: الجهات التي فرضت العقوبات ومراحل تطورها منذ عام 2011
منذ اندلاع الثورة سوريا عام 2011، اتجهت عدة دول ومنظمات إقليمية ودولية إلى فرض عقوبات على النظام السوري في محاولة للضغط عليه لوقف انتهاكات حقوق الإنسان والانخراط في عملية انتقال سياسي. وقد تنوعت هذه العقوبات من حيث الجهات التي فرضتها وأهدافها المعلنة وطبيعتها القانونية والسياسية كما تطورت عبر مراحل زمنية متتالية انسجاماً مع مسار الصراع السوري.
الجهات التي فرضت العقوبات على سوريا
الولايات المتحدة الأمريكية:
كانت من أوائل الدول التي فرضت عقوبات شاملة على الحكومة السورية شملت تجميد الأصول وحظر التعاملات المالية ومنع تصدير التكنولوجيا والمعدات وشملت العقوبات أيضاً شخصيات رفيعة في النظام وعلى رأسهم
رئيس الجمهورية وأفراد من أسرته بالإضافة إلى مؤسسات مصرفية وتجارية.
الاتحاد الأوروبي:
فرض الاتحاد الأوروبي حزمة من العقوبات طالت تصدير النفط السوري وحظرت التعامل مع البنك المركزي السوري وقيدت حركة سفر عشرات المسؤولين السوريين إلى الدول الأوروبية كما تم تجميد أصول العديد من
الكيانات الاقتصادية السورية في أوروبا. ([3])
جامعة الدول العربية:
ورغم تحفظ بعض الدول فرضت الجامعة العربية عقوبات رمزية شملت تعليق عضوية سوريا في المنظمة ومنع سفر بعض المسؤولين السوريين بالإضافة إلى تجميد بعض المشروعات الاقتصادية.
دول أخرى بشكل منفرد:
مثل كندا وأستراليا وسويسرا وتركيا والنرويج والتي اتبعت إجراءات مشابهة أو متوافقة مع العقوبات الأمريكية والأوروبية مما زاد من حدة الحصار الاقتصادي والدبلوماسي على النظام السوري.
ثانياً: ملامح التحول السياسي في سوريا وأثره على موقف المجتمع الدولي
منذ انطلاق الثورة السورية في آذار/مارس 2011، دخلت سوريا مرحلة جديدة من التحول السياسي تمثلت في كسر احتكار النظام للسلطة وظهور حراك شعبي واسع يطالب بالحرية والعدالة والكرامة ووفقاً لرؤية
المعارضة السوريا فإن هذه الثورة شكّلت نقطة فاصلة في التاريخ السياسي السوري وأفرزت ملامح جديدة للواقع السياسي يمكن تلخيص أبرزها بما يلي
ملامح التحول السياسي:
منذ بداية الثورة برزت محاولات متعددة لتشكيل بدائل سياسية للنظام الأسد البائد، كان أبرزها تأسيس المجلس الوطني السوري ثم الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة، اللذَين سعيا لتأطير الحراك الشعبي ضمن
رؤية سياسية جامعة، وتشكيل جسم تنفيذي تمثّل في الحكومة السورية المؤقتة هذه الكيانات مثّلت طموحًا لتأسيس بديل سياسي ذي شرعية ثورية، إلا أنها عانت من ضعف المؤسسات وانقسام الدعم الإقليمي،
وغياب النفوذ المباشر على الأرض.
في المقابل، شهد الشمال السوري بروز نموذج مختلف تمثّل في حكومة الإنقاذ السورية، التي ظهرت كأحد الكيانات الإدارية التي نشأت في سياق الثورة، مدعومةً من هيئة تحرير الشام. ومع مرور الوقت، تطور هذا
الكيان إلى نموذج سياسي محلي، اكتسب فاعلية من خلال قدرته على إدارة مؤسسات خدمية وتعليمية وقضائية. وقد رافق ذلك تحوّل نوعي في هيئة تحرير الشام، التي انتقلت تدريجيًا من تنظيم جهادي يتبنى
أيديولوجيا عابرة للحدود إلى فاعل سياسي محلي يسعى لتثبيت نموذج حكم بديل في سياق وطني محافظ.
هذا التحوّل اتخذ أبعادًا متعددة، أبرزها إدماج الكفاءات المدنية والتكنوقراطية في مؤسسات حكومة الإنقاذ، والاتجاه نحو انفتاح سياسي حذر تضمن السماح للأقليات الدينية بممارسة شعائرها، وإصدار رسائل تطمينية
لتعزيز النسيج الاجتماعي، بما عكس تطورًا في الخطاب السياسي باتجاه أكثر واقعية.
وقد شكّلت معركة “ردع العدوان” نقطة تحوّل مفصلية في المسار السياسي والعسكري السوري، إذ أدّت إلى إسقاط نظام بشار الأسد، وانتصار الثورة السورية بعد سنوات من الصراع. ومع دخول قوات غرفة عمليات ردع
العدوان إلى العاصمة دمشق، أُعلن عن تشكيل “الحكومة السورية الانتقالية” باعتبارها السلطة التنفيذية الشرعية الوحيدة على كامل الأراضي السوري.
في أعقاب هذا التحول، جرت عملية إعادة هيكلة شاملة وجذرية للمشهدين السياسي والعسكري، تمثلت أولاً في حلّ جميع الكيانات السياسية السابقة، بما في ذلك “الائتلاف الوطني والحكومة السورية المؤقتة، وحتى حكومة الإنقاذ، وذلك في إطار توحيد القرار السياسي والتمثيل الوطني تحت مظلة واحدة.
كما تم حلّ كافة الفصائل العسكرية، ودمجها ضمن هيكلية موحدة تحت إشراف وزارة الدفاع في الحكومة السورية الانتقالية، بما يضمن بناء جيش وطني مهني ومنضبط. وعلى المستوى الإداري، تم دمج جميع الإدارات
المدنية والمجالس المحلية ضمن وزارات الحكومة الجديدة، ما أدى إلى إنهاء حالة التعدد المؤسسي، وترسيخ مركزية سياسية وإدارية موحدة تمثل كافة السوريين في مرحلة ما بعد النظام، وتؤسس لشرعية ثورية
جديدة.
إن ما يميز هذا التحول ليس فقط في السيطرة الجغرافية، بل في التحوّل البنيوي في وظيفة الفاعلين الثوريين، حيث نجحت حكومة الإنقاذ، للمرة الأولى منذ اندلاع الثورة، في الانتقال من إدارة محلية إلى حكومة
انتقالية تمثل الدولة السورية بأكملها.
وبهذا المعنى، يمكن القول إن النموذج السياسي الذي تقوده هيئة تحرير الشام عبر حكومة الإنقاذ بعد أن راكم شرعيته من خلال الأداء المؤسساتي والميداني استطاع أن يفرض نفسه كبديل واقعي، متماسك، وأكثر
قدرة على التعبير عن التحولات العميقة التي شهدها المجتمع السوري خلال أكثر من عقد من الصراع.
إلا أن هذا التحول، رغم استقراره النسبي، لا يزال يواجه تحديات تتعلق بشرعية الاعتراف الإقليمي والدولي، وإدارة التنوع الاجتماعي في دولة خارجة من الحرب، فضلاً عن الحاجة لتكريس قيم المشاركة والتعددية في
الحياة السياسية المستقبلية، بما يضمن استدامة البناء السياسي الجديد ويمنع إعادة إنتاج الأزمات القديمة بشكل جديد.
أثر التحول السياسي على موقف المجتمع الدولي:
مع استلام السلطة الجديدة في سوريا خاصة بعد تخفيف ورفع جزء من العقوبات الدولية طرأت تغييرات واضحة على موقف المجتمع الدولي تجاه الملف السوري ومن أبرز هذه التغيرات هي
- شهدت العقوبات الدولية تخفيفًا تدريجيًا نتيجة جهود دبلوماسية وإقليمية مستمرة ما فتح الباب أمام إعادة تأهيل سوريا اقتصاديًا وسياسيًا
- عادت بعض الدول العربية إلى تطبيع علاقاتها مع الدولة السورية الجديدة مثل الإمارات والسعودية ومصر في محاولة لكسر العزلة السياسية التي فرضت على دمشق.
- تغيرت أولويات بعض الدول الغربية نحو استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب رغم استمرار تحفظاتها على سجل حقوق الإنسان والسياسات الداخلية للنظام.
- لا تزال هناك مواقف دولية متباينة حيث تحافظ بعض الدول على موقف تشديدي مطالبة بإصلاحات سياسية وحماية حقوق الإنسان قبل أي تطبيع كامل.
ختاماً إنّ العقوبات الدولية على سوريا مثّلت طوال سنوات الثورة وسيلة ضغط أساسية على النظام السابق الذي ارتكب انتهاكات جسيمة بحق شعبه وقد تزامن فرضها مع تحولات سياسية متسارعة داخل البلاد قادتها
قوى المعارضة. ومع سقوط النظام السابق وصعود سلطة جديدة أكثر انفتاحًا على المجتمع الدولي بدأت ملامح مرحلة سياسية مختلفة تتشكل اتسمت بالسعي إلى إعادة بناء الدولة وإصلاح علاقاتها الخارجية، وهو ما
انعكس بشكل مباشر على مسار العقوبات المفروضة.
فقد شرعت بعض الدول في مراجعة سياساتها تجاه سوريا، بما في ذلك تخفيف العقوبات أو رفعها جزئيًا في ظل مؤشرات على التزام القيادة الجديدة بمسار سياسي أكثر ديمقراطية وحقوقية. ومع ذلك تبقى هذه
الخطوات مشروطة بقدرة السلطة الجديدة على تحقيق الاستقرار ومحاربة الفساد واحترام حقوق الإنسان. وتُبرز هذه المرحلة أهمية إعادة تقييم دور العقوبات كأداة ضغط، والتمييز بين معاقبة أنظمة سابقة ودعم تحوّلات
سياسية ناشئة بما يخدم مصلحة الشعب السوري ويعزز فرص بناء دولة قانون ومؤسسات.
المطلب الثالث: الآثار الاقتصادية والاجتماعية والسياسية على سوريا
مثلت العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أحد أبرز العوامل التي عمّقت الأزمة الاقتصادية والإنسانية في البلاد، إذ لم تقتصر آثارها على الجانب السياسي أو على النخب الحاكمة، بل امتدت إلى مفاصل الحياة
اليومية للمواطنين كافة وأثّرت بشكل مباشر على الأداء الاقتصادي العام والخدمات الأساسية. وقد شهد الاقتصاد السوري نتيجة ذلك تراجعاً حاداً في الناتج المحلي الإجمالي وارتفاعاً في معدلات البطالة والتضخم، إلى
جانب الانهيار المستمر في قيمة العملة الوطنية، مما أدى إلى تدهور القدرة الشرائية للمواطنين واتساع رقعة الفقر.
كما انعكست العقوبات بوضوح على القطاعات الحيوية مثل الزراعة والصناعة والتجارة والخدمات، ما أدى إلى ضعف الإنتاج وتراجع الاستثمارات وانكماش السوق المحلي. أما على الصعيد الاجتماعي والإنساني، فقد
أسهمت العقوبات في إضعاف البنية التحتية للخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والكهرباء والمياه الأمر الذي فاقم معاناة السكان خاصة في المناطق الأكثر تضرراً.
كذلك دفعت الأوضاع المعيشية المتدهورة شريحة واسعة من السوريين إلى النزوح داخلياً أو الهجرة خارج البلاد بحثاً عن فرص حياة أفضل، مما أدى إلى تغييرات ديمغرافية واقتصادية واجتماعية واسعة النطاق.
يسعى هذا المبحث إلى تحليل الأثر المزدوج للعقوبات الدولية على سوريا، من خلال تناول آثارها على الاقتصاد الكلي والقطاعات الحيوية من جهة، وعلى الواقع الإنساني والاجتماعي من جهة أخرى، وذلك ضمن
مطلبين رئيسيين.
أولاً: انعكاسات العقوبات الاقتصادية على الناتج المحلي وسوق العمل والقطاعات الإنتاجية والخدمية في سوريا
منذ فرض العقوبات الدولية على سوريا في عام 2011، دخل الاقتصاد السوري في حالة من التراجع الحاد حيث أثّرت هذه العقوبات بشكل مباشر على مفاصل الاقتصاد الأساسية، وتسببت في تقويض جهود التنمية
والانتعاش الاقتصادي. فقد انخفض الناتج المحلي الإجمالي بشكل ملحوظ، إذ تشير بيانات البنك الدولي إلى أن الناتج المحلي الذي كان يُقدّر بنحو 60 مليار دولار عام 2010، تراجع إلى ما دون 15 مليار دولار بحلول عام
2020. ([4]) وتُظهر تقديرات لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا) أن الخسائر الكلية التي مُني بها الاقتصاد السوري نتيجة الحرب والعقوبات بلغت أكثر من 442 مليار دولار حتى عام 2021، ما
يعكس عمق الأثر التدميري الذي خلفته هذه العقوبات على المدى الطويل.
ولم تكن الليرة السورية بمنأى عن هذا التأثير، إذ شهدت العملة المحلية انهيارًا متسارعًا في قيمتها. فبينما كان الدولار الواحد يعادل نحو 50 ليرة سورية قبل عام 2011، تخطى سعر صرفه في السوق السوداء حاجز
15,000 ليرة في عام 2023. وقد ساهمت عدة عوامل في هذا الانهيار، من أبرزها الانخفاض الحاد في الصادرات، وتراجع التحويلات المالية من الخارج، وتقلص حجم الاستثمار، بالإضافة إلى الضغوط الناتجة عن شح
الموارد والقيود المصرفية.
أما على صعيد سوق العمل فقد تصاعدت معدلات البطالة إلى مستويات غير مسبوقة. فبينما كانت البطالة تُقدّر بنسبة 8.5% قبل الأزمة، وصلت في السنوات الأخيرة إلى أكثر من 50%، بحسب تقارير منظمات دولية.
وتفاقمت هذه الأزمة بشكل خاص في أوساط الشباب والنساء، نتيجة انهيار قطاعات حيوية مثل الصناعة والخدمات التي كانت سابقًا تستوعب جزءًا كبيرًا من القوى العاملة. ([5])
وفيما يتعلق بالقطاعات الإنتاجية، فقد تراجع قطاع النفط بشكل شبه كامل، إذ انخفض الإنتاج من نحو 385 ألف برميل يوميًا عام 2010 إلى أقل من 20 ألف برميل يوميًا في عام 2022، بعد استهداف هذا القطاع بعقوبات
مباشرة ومنع استيراد المعدات اللازمة للصيانة والتشغيل. ([6]) كما عانت الزراعة من قيود مشابهة، حيث حالت العقوبات دون استيراد الأسمدة والمعدات الزراعية، مما أدى إلى انخفاض كبير في المحاصيل الزراعية. ولم
يكن القطاع الصحي أفضل حالًا، فقد تأثر بدوره بسبب حظر توريد الأجهزة الطبية الحديثة رغم الاستثناءات الإنسانية، مما تسبب في تدهور واضح في جودة الخدمات الصحية، وهو ما وثقته منظمات حقوقية مثل “هيومن
رايتس ووتش”
وأمام هذا الواقع، تقلص الاستثمار بشكل ملحوظ، سواء المحلي أو الأجنبي. فقد دفعت العقوبات معظم المستثمرين إلى الانسحاب من السوق السورية، كما فرضت قيودًا مصرفية مشددة جعلت من الصعب تنفيذ أي
نشاط تجاري أو استثماري. وتشير تقديرات مركز كارنيغي إلى أن أكثر من 75% من الشركات الأجنبية انسحبت من سوريا بحلول عام 2014، في ظل بيئة اقتصادية متأزمة تفتقر إلى الحد الأدنى من مقومات الجذب
والاستقرار.
بالمجمل، تُبرز هذه المؤشرات حجم التدهور الذي أصاب الاقتصاد السوري نتيجة العقوبات، وتُمهّد لفهم أهمية أي إجراء مستقبلي يُعيد فتح قنوات الاستثمار والدعم الدولي، وعلى رأسها رفع العقوبات كخطوة أساسية
لإعادة تنشيط عجلة التنمية الاقتصادية.
ثانياً: تدهور الخدمات الأساسية وارتفاع معدلات الفقر والهجرة في ظل العقوبات
في ظل العقوبات الدولية المفروضة على سوريا منذ عام 2011، شهدت البلاد تدهوراً واسعاً في الخدمات الأساسية وارتفاعاً حاداً في معدلات الفقر إلى جانب موجات هجرة داخلية وخارجية غير مسبوقة، ما عمّق الأزمة
الاقتصادية والإنسانية بشكل كبير.
فقد انعكست آثار العقوبات بشكل مباشر على قطاعات حيوية مثل الصحة والتعليم والكهرباء. فبسبب القيود الاقتصادية تراجعت الخدمات الصحية والتعليمية نتيجة لتضرر المنشآت وتراجع قدرة الدولة على تمويل هذه
القطاعات، بالإضافة إلى نزيف الكوادر البشرية بسبب الهجرة، والانخفاض الكبير في القدرة الشرائية بسبب انهيار سعر الصرف. كما أدى ذلك إلى تراجع الإنتاج في قطاع الخدمات الاجتماعية والشخصية إلى نحو 60%
مما كان عليه قبل عام 2010.
أما على مستوى المعيشة فقد ارتفعت معدلات الفقر بشكل غير مسبوق حيث يعيش أكثر من 80% من السكان تحت خط الفقر، في حين يعاني حوالي 66% من فقر مدقع، مما يشير إلى صعوبة بالغة في تأمين الحد
الأدنى من الاحتياجات الأساسية كالغذاء والدواء. ([7])
وتزامناً مع هذا التدهور شهدت سوريا موجات نزوح واسعة، إذ يقدّر عدد النازحين داخلياً بأكثر من 6.8 ملايين شخص بينما استمرت أعداد اللاجئين خارج البلاد بالازدياد، نتيجة لتدهور الخدمات، وانعدام مقومات الحياة في
عدد من المناطق قبل سقوط النظام البائد.
ثالثاً: تأثير العقوبات الدولية في إضعاف النظام السوري وإعادة تشكيل المشهد السياسي
شكلت العقوبات الدولية، وخصوصاً تلك التي فرضتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، عاملاً محورياً في إضعاف نظام بشار الأسد على الصعيدين الاقتصادي والسياسي. فقد استهدفت هذه العقوبات قطاعات حيوية،
مما أدى إلى تراجع حاد في موارد الدولة، وأثر بشكل مباشر على الخدمات العامة ومستوى المعيشة، مما زاد من استياء المواطنين وتراجع الدعم الشعبي للنظام.
كما أدت العقوبات إلى عزلة متزايدة للنظام على المستوى الدولي، ما دفعه إلى الاعتماد بشكل أكبر على حلفائه الإقليميين والدوليين، مثل روسيا وإيران، لتعويض النقص في الموارد والدعم. هذا التدهور الاقتصادي
والاجتماعي تسبب في تفكك الطبقة الوسطى وهجرة العديد من الكفاءات، الأمر الذي أضعف الشرعية الداخلية للنظام وقلل من قدرته على السيطرة.
في المقابل، وفرت هذه الضغوط بيئة مناسبة للمعارضة السورية المدعومة دولياً لتعزيز قدراتها، وتوحيد مواردها، وتحقيق مكاسب سياسية وعسكرية ساهمت في نهاية المطاف في سقوط النظام وإعادة تشكيل
المشهد السياسي في سوريا.
في ضوء ما تقدم، يتّضح أن الاقتصاد السوري والبنية الاجتماعية قد شهدا تحوّلات جذرية بفعل مجموعة من العوامل المتداخلة، ولعلّ من أبرزها العقوبات الدولية التي فرضت أعباءً كبيرة على الدولة والمجتمع على حدّ
سواء. فقد أدّت هذه العقوبات إلى إضعاف القطاعات الإنتاجية، وارتفاع معدلات البطالة والفقر، وتراجع القدرة الشرائية والخدمات الأساسية، ما أحدث شرخاً عميقاً في النسيج الاجتماعي السوري. ومن هنا، فإن تحليل
تأثير العقوبات لا يجب أن يُحصر في بعدها السياسي، بل ينبغي مقاربتها ضمن سياقها الأوسع، الذي يشمل الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، بما يسمح بصياغة رؤى واقعية لمعالجة آثارها.
كما لعبت العقوبات الدولية دوراً محورياً في تسريع سقوط نظام بشار الأسد، من خلال إضعافه اقتصادياً وسياسياً، وعزله دولياً، مما دفعه إلى الاعتماد بشكل أكبر على حلفائه الإقليميين والدوليين. هذا الواقع خلق بيئة
مناسبة للمعارضة السورية لتعزيز قدراتها وتوحيد جهودها، مما أسهم في إعادة تشكيل المشهد السياسي السوري بشكل جذري.
وفي هذا الإطار، سننتقل في المبحث الثالث والأخير إلى استعراض تجارب مقارنة من دول أخرى واجهت ظروفاً مشابهة في السياق السوري.
المبحث الثاني
تجارب مقارنة في إدارة مرحلة ما بعد رفع العقوبات:
مع رفع جزء كبير من العقوبات الاقتصادية المفروضة على سوريا مؤخرًا، خلال الأسابيع القليلة الماضية، باتت البلاد على أعتاب مرحلة جديدة تتطلب استعدادًا سياسيًا واقتصاديًا لمواجهة استحقاقات ما بعد العقوبات.
وتُمثّل هذه المرحلة لحظة فارقة يمكن أن تفتح المجال أمام إعادة تفعيل عجلة الاقتصاد، وجذب رؤوس الأموال، وتطوير بنية الدولة ومؤسساتها، إذا ما أُحسن إدارتها وتوجيهها.
وفي هذا الإطار، تبرز أهمية دراسة التجارب المقارنة لعدد من الدول التي مرت بظروف مشابهة، مثل العراق وإيران، ونجحت بدرجات متفاوتة في إدارة عملية الانتقال من حالة العزلة الاقتصادية إلى الاندماج الجزئي أو
الكلي في الاقتصاد العالمي. إن فهم آليات تعامل هذه الدول مع الصدمات الاقتصادية، والسياسات التي تبنتها لتحقيق الاستقرار، والدروس التي يمكن استخلاصها من مساراتها، يُعد أمرًا بالغ الأهمية لسوريا في هذه
اللحظة الدقيقة، خاصة أن الوقت لا يزال متاحًا لتصحيح المسار وتفادي التحديات التي واجهتها تلك الدول.
المطلب الأول: مقارنة في إدارة آثار العقوبات والتحول الاقتصادي
أولاً: نماذج من العراق وإيران في مرحلة ما بعد العقوبات
شهد كل من العراق وإيران تحولاً اقتصادياً ملحوظاً بعد رفع العقوبات، إلا أن الظروف الداخلية والإقليمية وتباين السياسات الحكومية جعلا من نتائج هذا التحول متفاوتة بين البلدين.
- العراق بعد العقوبات: رفعٌ دون استقرار
بعد عام 2003، ومع سقوط نظام صدام حسين ورفع العقوبات الأممية التي فُرضت منذ تسعينيات القرن العشرين، كان من المتوقع أن يشهد العراق تحسناً اقتصادياً سريعاً. إلا أن الواقع كان مغايراً. فقد واجه العراق
تحديات جسيمة حالت دون استثمار فرصة رفع العقوبات، من أبرزها الانفلات الأمني وتفشي الفساد وسوء الإدارة العامة، فضلاً عن عدم استقرار النظام السياسي الجديد
وقد أشار الباحث حامد عبيد حداد في دراسته إلى أن الاقتصاد العراقي لم يتمكن من النهوض فعلياً نتيجة لاعتماده المفرط على قطاع النفط، وتضخم القطاع العام وضعف القطاع الخاص، مما جعل النمو الاقتصادي مرتبطاً
بتقلبات أسعار النفط العالمية، وغير قادر على تحقيق تنمية مستدامة. ([8])
كما أوضح تقرير لقناة الجزيرة أن العراق لا يزال رغم مرور أكثر من عقد على رفع العقوبات، يعاني من ضعف مؤسسات الدولة وغياب الخطط الاستراتيجية، واستمرار الاقتصاد الريعي مما يؤثر على قدرته في مواجهة
الأزمات الاقتصادية. ([9])
- إيران بعد الاتفاق النووي: انفتاح جزئي مقيد
في عام 2015، وقّعت إيران الاتفاق النووي مع القوى الكبرى مما أدى إلى رفع جزء كبير من العقوبات الاقتصادية الدولية، خاصة تلك المرتبطة بالبرنامج النووي. سمح هذا الانفراج المؤقت بعودة إيران إلى تصدير النفط،
وانفتاحها نسبياً على الأسواق الأوروبية والآسيوية. غير أن هذا الانفتاح لم يدم طويلاً، حيث انسحبت الولايات المتحدة من الاتفاق عام 2018، وأعادت فرض العقوبات بشكل أكثر صرامة. ([10])
وقد بيّن تقرير صادر عن مركز الجزيرة للدراسات أن إيران حاولت خلال فترة ما بعد الاتفاق النووي جذب استثمارات أجنبية وتحديث بعض قطاعاتها الصناعية، إلا أن بيئة الاستثمار غير المستقرة، والخوف من عودة العقوبات،
إضافة إلى العقوبات غير النووية كالمتعلقة بحقوق الإنسان والإرهاب حالت دون تحقيق اختراق اقتصادي حقيقي. ([11])
وفي السياق ذاته، يوضح الموسوي أن الاقتصاد الإيراني يتميز بقدر من “المرونة العقابية”، إلا أن هذه المرونة لم تكن كافية لتحفيز إصلاحات هيكلية، بل بقي الاقتصاد خاضعاً لتحكم الدولة عبر الحرس الثوري وبعض المؤسسات الدينية، وهو ما قيّد فاعلية الانفتاح بعد رفع العقوبات. ([12])
يتضح من التجربتين أن العراق لم تتمكن من استغلال رفع العقوبات بسبب هشاشة بنيته الأمنية والسياسية، بينما إيران فشلت في تعميق إصلاحاتها الاقتصادية رغم توفر الفرصة الزمنية. كلا النموذجين يعاني من تبعية اقتصادية وغياب إصلاح مؤسسي ما يجعل مرحلة ما بعد العقوبات عرضة للانتكاس السريع أمام أي تطور دولي سلبي.
خلاصة تحليلية
العراق |
إيران | البند |
ضعيف ومتعدد الأقطاب | قوي ومركزي | استقرار سياسي |
اقتصاد ريعي يعتمد على النفط فقط | اقتصاد شبه متنوع مع مقاومة للعقوبات | تنوع اقتصادي |
شبه غائب | محدود ومتردد | الاستثمار الأجنبي |
رفض واحتجاجات | تماسك نسبي مع تذمر | الاستجابة الشعبية |
هشة ومخترقة | متماسكة وأمنية الطابع |
المؤسسات |
ثانياً: كيفية استعادة الاستقرار الاقتصادي بعد رفع العقوبات في سوريا
بعد سنوات من العزلة الاقتصادية والعقوبات المفروضة على الدولة السورية، جاء قرار رفع العقوبات الدولية بشكل مؤقت في مايو 2025 ليشكل نقطة تحول حاسمة في مسار سورية الاقتصادي إلا أن هذا التحول لا يعني
نهاية التحديات، بل يتطلب رؤية اقتصادية متكاملة تعالج آثار العقوبات وتعيد بناء الدولة السورية وفق أولويات التنمية والاستقرار.
في البداية فإن القطاعات الحيوية التي تضررت بشكل بالغ بسبب العقوبات وعلى رأسها قطاع الطاقة، يحتاج إلى إعادة تأهيل سريع بالإضافة كانت الحقول النفطية تعمل بأقل من طاقتها الإنتاجية نتيجة فقدان التكنولوجيا
الغربية والخبرات، ناهيك عن الأضرار التي لحقت بالبنى التحتية خلال سنوات الحرب. إن استئناف التصدير وإعادة تشغيل المصافي والاعتماد على شراكات إقليمية خصوصاً مع دول الخليج بات ضرورة ملحة لتعزيز الإيرادات
العامة وتوفير العملة الصعبة.
بالتوازي، يُتوقع أن يشهد القطاع المصرفي انتعاشاً كبيراً مع عودة البنوك السورية إلى المنظومة المالية العالمية مما يسهل حركة التحويلات والاستثمارات ويعزز من قدرة الاقتصاد المحلي على التفاعل مع الأسواق
الخارجية. إن إصلاح النظام المصرفي يجب أن يُرافقه تحديث في التشريعات المالية والقانونية، لضمان الشفافية وجذب المستثمرين العرب والأجانب ([13])
من جهة أخرى، فإن رفع العقوبات سيسمح أخيراً للقطاعات الصناعية والزراعية بالحصول على مستلزمات الإنتاج التي كانت محظورة مثل المواد الخام، والذي سيعيد الأمل بإعادة تشغيل آلاف المعامل والمزارع، خاصة
تلك الواقعة في مناطق مستقرة نسبيًا. كما يُمكن أن تستفيد البلاد من برامج دعم تقني أو تمويل إعادة الإعمار من بعض الدول الصديقة مما يعزز فرص التنمية المستدامة. ([14])
لكن لا يمكن الحديث عن الاستقرار الاقتصادي دون التطرق إلى السياسات النقدية، إذ سجلت الليرة السورية تحسناً ملحوظاً عقب رفع العقوبات، مدفوعة بتحسن ثقة السوق وآمال بعودة الاستثمارات ومع ذلك، فإن
استقرار سعر الصرف يتطلب سياسات مدروسة من قبل البنك المركزي، تحدّ من التضخم وتحافظ على قيمة العملة، خاصة في ظل الحاجة لتمويل الإنفاق الحكومي المرتبط بعملية إعادة الإعمار.
كذلك، من الضروري أن يُرافق هذا الانفتاح الاقتصادي تحسينات جدية في مناخ الاستثمار، من خلال تقديم تسهيلات تشريعية، وإنهاء الاحتكار، وتشجيع القطاع الخاص المحلي والدولي. ويُتوقع أن تسهم الدول الخليجية
في ضخ رؤوس أموال كبيرة في مشاريع الطاقة والبنية التحتية، خاصة في ظل التقارب الدبلوماسي الأخير. ولعلّ التحدي الأكبر في المرحلة القادمة هو تحقيق عدالة التوزيع في النمو بحيث لا يقتصر الانتعاش الاقتصادي
على النخب أو مراكز المدن الكبرى، بل يمتد إلى المناطق الريفية والمهمشة التي عانت طويلاً من التهميش والصراع.
في المجمل، فإن رفع العقوبات يوفر نافذة أمل حقيقية للاقتصاد السوري، ولكن نجاح هذا المسار مشروط بوجود رؤية سياسية واضحة وإرادة وطنية جادة لإصلاح المؤسسات والابتعاد عن السياسات الريعية والزبائنية
التي عمّقت الأزمات خلال العقود الماضية.
المطلب الثاني: التحديات والفرص في مرحلة ما بعد العقوبات
مع التغيرات السياسية الأخيرة التي شهدتها سوريا، وصدور قرار برفع العقوبات الأمريكية والأوروبية بشكل مؤقت، دخلت البلاد في مرحلة دقيقة تتطلب قراءة معمقة لمجمل التحديات والفرص المرافقة لهذا التحول. فرغم
ما تحمله هذه الخطوة من إشارات إيجابية نحو انفتاح دولي محتمل، إلا أنها لا تزال مشروطة بسلوك النظام الجديد ومدى قدرته على تلبية متطلبات المجتمع الدولي، والوفاء باستحقاقات الانتقال السياسي والاقتصادي.
في هذا السياق، يبدو المشهد أكثر تعقيداً في ظل استمرار التحديات الهيكلية التي تعاني منها الدولة السورية، وعلى رأسها ضعف المؤسسات العامة، وتفشي الفساد، وتراجع الثقة بالحوكمة، ما يطرح تساؤلات جادة
حول قدرة النظام الجديد على الاستفادة من هذا الانفراج في العقوبات، وتحويله إلى مسار تنموي فعلي. وفي الوقت ذاته، فإن التحول الجاري يفتح الباب أمام فرص مهمة، تتمثل في إمكانية جذب الاستثمارات الخارجية
والداخلية، وتحريك عجلة الاقتصاد الإنتاجي، والبدء بخطوات جدية نحو إعادة الإعمار، بما قد يسهم في خلق بيئة استقرار اقتصادي واجتماعي تدريجي.
بناءً على ما سبق، يتناول هذا المطلب في فرعه الأول الموقف الدولي من النظام السوري الجديد، ومدى ارتباطه بمؤشرات رفع العقوبات، مع التطرق إلى الإشكاليات المتعلقة بضعف المؤسسات واستمرار مظاهر
الفساد. أما في فرعه الثاني، فيتم تسليط الضوء على أبرز الفرص المتاحة أمام سوريا للاستفادة من هذه المرحلة، بما في ذلك جذب الاستثمارات، وتفعيل مشاريع إعادة الإعمار، وتنشيط الاقتصاد الإنتاجي كمدخل
لتحقيق التنمية المستدامة.
أولاً: الموقف الدولي من النظام الجديد ومؤشرات رفع العقوبات وضعف المؤسسات واستمرار الفساد
مع بداية مرحلة ما بعد رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية المؤقتة عن سوريا، بدأت مجموعة من الدول الفاعلة إقليمياً ودولياً في إعادة النظر في موقفها تجاه النظام السوري الجديد ومن أبرز هذه الدول السعودية وقطر
ودول الخليج عموماً، إضافة إلى تركيا، والولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، الذين بدأوا فتح قنوات تواصل وحوار مع دمشق متطلعين إلى استقرار نسبي في المنطقة وتحقيق مصالح مشتركة بعد سنوات من التوتر
والقطيعة.
لكن هذا الانفتاح الخارجي لا يمكن فصله عن الواقع الداخلي الذي تعيشه سوريا، حيث استلم النظام الجديد مؤسسات حكومية ضعيفة، يعاني معظمها من فساد متجذر وأداء إداري متردٍ. وعلى الرغم من هذه التحديات
تبذل الدولة جهوداً لإصلاح هذه المؤسسات وتحسين آليات العمل الحكومي، وهو أمر يتوقف نجاحه على قدرة النظام في تنفيذ إصلاحات حقيقية وجذرية تعيد بناء الثقة بين الدولة والمواطنين كما تعزز من مصداقية سوريا
على الصعيد الدولي.
إن رفع العقوبات، رغم أهميته، لا يشكل بوابة للانتعاش الاقتصادي والسياسي بحد ذاته، ما لم يصحبه إصلاح هيكلي للمؤسسات الحكومية ومعالجة جادة للفساد المستشري. ولذا، يضع المجتمع الدولي، ولا سيما
الدول التي أعادت فتح أبوابها مع دمشق، شروطاً ضمنية ترتبط بتحقيق تقدم ملموس في مسار الإصلاحات السياسية والإدارية، باعتبارها مفتاح النجاح في ترسيخ الاستقرار ودعم عودة سوريا إلى المسار الطبيعي من
التعاون الدولي والتنمية الاقتصادية.
وهكذا، تبدو المرحلة الراهنة في سوريا مفصلية حيث يرتبط مستقبل النظام الجديد ومدى قبوله الدولي بمدى قدرته على إصلاح المؤسسات وإرساء حكم رشيد يضمن شفافية العمل العام، ويتيح جذب الاستثمارات
اللازمة لتحقيق التنمية المنشودة.
ثانياً: الفرص المتاحة لجذب الاستثمارات الداخلية والخارجية وإعادة الإعمار وتنشيط الاقتصاد الإنتاجي
مع رفع العقوبات الأمريكية والأوروبية مؤقتًا عن سوريا، تتوفر أمام البلاد فرص حقيقية لإعادة البناء الاقتصادي وتنشيط مختلف القطاعات الإنتاجية التي عانت خلال سنوات الأزمة. يفتح هذا التطور آفاقًا واسعة لجذب
الاستثمارات المحلية والخارجية، إذ يمكن لرجال الأعمال السوريين الذين احتفظوا بأصولهم خلال سنوات الحرب أن يلعبوا دورًا رئيسيًا في إعادة إحياء النشاط الاقتصادي من خلال تأسيس مشاريع جديدة أو توسيع
أعمالهم القائمة. كما أن استقرار الأوضاع الأمنية في أجزاء كبيرة من البلاد يشكل عامل جذب إضافي للاستثمار المحلي، إلى جانب عودة عدد من المغتربين الذين يملكون القدرة على ضخ رؤوس أموال جديدة تدعم
الاقتصاد الوطني.
على المستوى الخارجي، بدأ عدد من الدول الإقليمية والدولية، ومن بينها السعودية وقطر وتركيا، بفتح قنوات التعاون الاقتصادي مع النظام السوري الجديد، مستفيدة من موقع سوريا الجغرافي الاستراتيجي ومواردها
الطبيعية الكبيرة. كما أن الأسواق السورية الواعدة تعد نقطة جذب للمستثمرين الباحثين عن فرص في قطاعات إعادة الإعمار، الزراعة، الصناعة والبنية التحتية.
في هذا السياق، يبرز الاقتصاد الإنتاجي كركيزة أساسية لتعزيز التنمية المستدامة وتقليل الاعتماد على الواردات، ما يعزز الأمن الغذائي ويوفر فرص عمل جديدة. ولتحقيق هذه الأهداف، تبنت الحكومة السورية إجراءات
لتحسين بيئة الاستثمار، تشمل إصلاح التشريعات الاقتصادية، تقديم حوافز ضريبية، وتعزيز الشفافية لمكافحة الفساد، وذلك بغية استعادة ثقة المستثمرين المحليين والأجانب.
بالرغم من هذه الفرص، فإن التحديات تبقى حاضرة، حيث تتطلب إعادة بناء الاقتصاد السوري تنسيقًا متكاملاً بين الجهات الحكومية والمستثمرين، إلى جانب ضمان الاستقرار السياسي والأمني، والإصلاح الحقيقي
للمؤسسات الاقتصادية، بما يسهم في خلق بيئة مستدامة ومواتية للنمو الاقتصادي.
وهكذا، تبدو المرحلة الراهنة في سوريا مفصلية، حيث يرتبط مستقبل النظام الجديد ومدى قبوله الدولي بمدى قدرته على إصلاح المؤسسات وإرساء حكم رشيد يضمن شفافية العمل العام، ويتيح جذب الاستثمارات
اللازمة لتحقيق التنمية المنشودة.
الخاتمة
بعد استعراض شامل لموضوع العقوبات الدولية المفروضة على سوريا، وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية العميقة، ثم تحليل تجارب دولية مقارنة في إدارة مرحلة ما بعد رفع العقوبات، يمكن التأكيد على أن هذا الملف
يشكل تحديًا مركبًا يتطلب رؤية متكاملة واستراتيجيات متوازنة.
لقد بيّن البحث أن العقوبات، رغم أهدافها السياسية، خلفت آثارًا سلبية على الاقتصاد السوري، وأدت إلى تراجع واضح في قطاعات الإنتاج والخدمات، مع تفاقم معدلات الفقر والهجرة. كما أظهرت المراجعة المقارنة
لتجارب العراق وإيران أن استعادة الاستقرار الاقتصادي تتطلب إدارة حكيمة للموارد، إصلاحات مؤسسية فعالة، ودعم دولي متوازن.
وفي مرحلة ما بعد رفع العقوبات، يعاني النظام السوري من تحديات كبيرة مرتبطة بضعف مؤسسات الدولة وامتداد الفساد، إلا أن هناك مؤشرات دولية إيجابية، مع انفتاح تدريجي من دول خليجية وغربية، تدعم احتمالات
تخفيف العقوبات وتعزيز التعاون الاقتصادي. من جهة أخرى، تكمن الفرص في إعادة إعمار البنية التحتية، وتنشيط الاقتصاد الإنتاجي، وجذب الاستثمارات المحلية والخارجية، التي تعدّ ضرورية لتحقيق التنمية المستدامة
والاستقرار السياسي.
ختامًا، يبرز البحث أهمية تبني سياسات إصلاحية شاملة وفعالة، تعزز الشفافية وتكافح الفساد، وتخلق بيئة استثمارية مواتية، مع ضرورة الاستفادة من الدروس المستقاة من التجارب الإقليمية والدولية. إن نجاح سوريا
في هذه المرحلة الحساسة يعتمد على مدى قدرتها على إدارة التحديات، والاستفادة من الفرص المتاحة لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا لشعبها.
هذا البحث يسعى لأن يكون إضافة معرفية تخدم صناع القرار والباحثين، وتسلط الضوء على أهمية التوازن بين السياسة والاقتصاد في مراحل التحول الوطني، لتكون سوريا نموذجًا حقيقيًا للتعافي والتنمية في منطقة
الشرق الأوسط.
المراجع
1- لجنة القانون الدولي. (2001). السنة الدولية للجنة القانون الدولي لعام 2001 – المجلد الثاني، الجزء الثاني. الأمم المتحدة.
Yearbook of the International Law Commission 2001 Volume II Part Two
2- شسترمان، س.، وبوليني، ب. (2003). عقد العقوبات: تقييم استراتيجيات الأمم المتحدة في التسعينيات. ستانفورد: كتالوج سيرتش ووركس
عقد العقوبات : تقييم استراتيجيات الأمم المتحدة في التسعينيات في كتالوج SearchWorks
3- كورترight، د.، ولوبيز، ج. أ. (2002). مراجعة: من الغبي إلى الذكي؟ الإصلاحات الأخيرة لعقوبات الأمم المتحدة. المجلة الدولية، 57(2)، 201–221.
مراجعة: مراجعة المقال: من الغبي إلى الذكي؟ الإصلاحات الأخيرة لعقوبات الأمم المتحدة على JSTOR
4- الاتحاد الأوروبي. (دون تاريخ). إجراءات تقييدية للاتحاد الأوروبي في ضوء الوضع في سوريا. يوروليكس.
إجراءات تقييدية للاتحاد الأوروبي في ضوء الوضع في سوريا | اليورو-ليكس
5- البنك الدولي. (دون تاريخ). الناتج المحلي الإجمالي (بالدولار الأمريكي الجاري) – الجمهورية العربية السورية.
GDP (current US$) – Syrian Arab Republic | Data
6- البنك الدولي. (دون تاريخ). نظرة عامة على سوريا: أخبار التنمية، أبحاث، بيانات.
نظرة عامة على سوريا: أخبار التنمية, بحاث, بيانات | البنك الدولي
7- قاعدة بيانات). CEICدون تاريخ) معدل البطالة – سوريا.
ceicdata.com/en/indicator/syria/unemployment-rate
8- الاتجاهات الكلية. (2025). معدل البطالة في الجمهورية العربية السورية 1991-2025.
معدل البطالة في الجمهورية العربية السورية 1991-2025 | الاتجاهات الكلية
9- قاعدة بيانات (دون تاريخ). النفط الخام السوري: الإنتاج 1960–2024.
النفط الخام السوري: الإنتاج، 1960 – 2024 | بيانات CEIC
10- الخطيب، لينا. (2022). وجهات نظر مقارنة بشأن تحدّيات إعادة الإعمار في سورية. مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.
وجهات نظر مُقارَنة بشأن تحدّيات إعادة الإعمار في سورية | Carnegie Endowment for International Peace
11- هيومن رايتس ووتش. (2022). أسئلة وأجوبة: كيف تؤثر العقوبات على الاستجابة الإنسانية في سوريا.
أسئلة وأجوبة: كيف تؤثر العقوبات على الاستجابة الإنسانية في سوريا | هيومن رايتس ووتش
12- مركز لباب للدراسات. (2025). التحديات الاقتصادية والتنموية في سوريا بعد انهيار حكم بشار الأسد.
13- مراجعة الهجرة القسرية. (2021). تأثير العقوبات الدولية على المساعدات الإنسانية في سوريا.
تأثير العقوبات الدولية على المساعدات الإنسانية في سوريا – Forced Migration Review
14- حداد، ح. ع. (2024). التحديات الاقتصادية في العراق بعد الانسحاب الأمريكي. المجلة العراقية للعلوم الاقتصادية، (12)، 45-67.
https://iasj.rdd.edu.iq/journals/uploads/2024/12/23/41bd56a42e7aa765353a8d13a4b81917.pdf
15- الجزيرة نت. (2020). 10 سنوات على رفع العقوبات الدولية.. وما زال العراق يعيش آثارها.
https://www.aljazeera.net/news/2020/12/16/10-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA
16- الموسوي، م. (2021). الاتفاق النووي الإيراني الجديد وتداعياته على الساحة العراقية: رؤية تحليلية. المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية
https://ecss.com.eg/16269/
17- عطوان، خ. ع. (2018). المستقبلات البديلة لإيران بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي. المركز الديمقراطي العربي
https://democraticac.de/?p=56043
18- مركز الجزيرة للدراسات. (2015). ما بعد الاتفاق النووي: حسابات إيران وعلاقاتها.
https://studies.aljazeera.net/ar/reports/2015/07/201572892545969179.html
19- الجزيرة نت (2025، 17 مايو). تعرف على أبرز القطاعات السورية المستفيدة من رفع العقوبات
https://www.aljazeera.net/ebusiness/2025/5/17/تعرف-على-أبرز-القطاعات-السورية
20- الجزيرة نت. (2025، 24 مايو). ما الذي يعنيه رفع العقوبات على الاقتصاد السوري؟
https://www.aljazeera.net/ebusiness/2025/5/24/ما-الذي-يعنيه-رفع-العقوبات