المبحث الأول: تحولات الدبلوماسية المعاصرة وتحدياتها الأخلاقية
أولًا: من الدبلوماسية الكلاسيكية إلى الوظيفة المزدوجة
لقد مرّت الدبلوماسية بتحوّلات جذرية في بنيتها ووظيفتها، انعكست بوضوح على طبيعة حضورها في الساحة الدولية. فبعد أن كانت، في صورتها التقليدية، فنًا راقيًا من فنون التفاوض، وأداة لتقريب وجهات النظر وتلطيف التوترات بين الكيانات السياسية، غدت – في مراحل لاحقة – ذراعًا مموّهة للنفوذ السياسي، ثم أداة اختراق ناعمة تُمارس باسم السيادة وتخدم أجندات خفيّة لا تعلن عن وجهها الحقيقي إلا حين تبلغ مقصدها.
ولم يكن هذا التحول مجرد تطور طبيعي في الوسائل، بل كان – في جوهره – انحرافًا عن روح الدبلوماسية الأصلية بوصفها مهمة شريفة تقتضي من حاملها الترفع عن الخداع، والوفاء بالعهد، والأمانة في الكلمة. وقد قرر القرآن الكريم هذا الأصل الجوهري بقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ﴾ [النساء: 135] وقوله: ﴿وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى﴾ [الأنعام: 152]
وقد ثبت في قصة صلح الحديبية حين تم العقد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّا قد عقدنا بيننا وبين القوم صُلحًا، وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم، والغدر لا يصلح لنا في ديننا”. وفي هذا الموقف النبوي البليغ، تتجلى صورة راقية من أخلاقيات العمل الدبلوماسي، حيث كان رسول الله ﷺ حريصًا على المبدأ قبل المصلحة، وعلى الصدق حتى في موطن الحرب والمواجهة، وهو ما يؤكد أن الوظيفة التمثيلية لا تبيح التلون أو الخداع، ولا تبرر التنازل عن المبادئ بحجة مراعاة السياسات.
غير أن التحولات الجيوسياسية التي أعقبت مرحلة الاستعمار التقليدي، ثم الحربين العالميتين، ثم الحرب الباردة، قد أسهمت في إعادة صياغة الوظيفة الدبلوماسية لتتجاوز حدود التمثيل السياسي والتواصل البروتوكولي، فتشابكت – في كثير من الدول الكبرى – مع نشاطات استخباراتية وتجارية ومعلوماتية، أفرزت ما يمكن تسميته بـ”الوظيفة المزدوجة للدبلوماسي”، حيث يُقدّم الخطاب الرسمي بلغة ناعمة، بينما تُدار في الخفاء عمليات تأثير وتجنيد ومراقبة.
وهنا تبرز إشكالية الازدواج الأخلاقي، حيث يُستخدم الإطار القانوني للدبلوماسية كستار لخرق السيادة، ويُستثمر خطاب التعاون في سياق اختراق ناعم يزعزع الثقة بين الشعوب. وهذا كله يُناقض الأصل الإسلامي في التعامل الدولي، القائم على الوضوح والعدل والوفاء، كما قال ﷺ في الحديث الصحيح: “آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان” (رواه البخاري ومسلم).
إن ما نشهده اليوم من تميع للمبادئ داخل البعثات الدبلوماسية، وتوسع في توظيفها لغايات أمنية أو استخباراتية، لم يعد مجرد تجاوز فردي، بل أصبح بنية مؤسسية تُدار بعقل بارد وتُغلّف بخطاب ناعم، وهو ما يستوجب نقدًا أخلاقيًا صريحًا لا يتستر خلف الاعتبارات السياسية أو المصالح العابرة.
ثانيًا: استغلال الحصانة الدبلوماسية وتحوّلها إلى غطاء للانتهاك
تُعدّ الحصانة الدبلوماسية، كما نظّمتها اتفاقية فيينا لعام 1961، تدبيرًا قانونيًا يهدف إلى تمكين المبعوث الدبلوماسي من أداء وظيفته في الدولة المضيفة دون خوف من الضغط أو التعسف القانوني، وهي في أصلها ضرورة عملية لا إكرامية شخصية، أي أنها ضمانة للأداء، لا امتياز يعلو به صاحبه على القانون أو يرفعه فوق المساءلة.
غير أن الواقع الدبلوماسي المعاصر يشهد انحرافًا متسارعًا وخطيرًا في توظيف هذه الحصانة، حيث تحوّلت في حالات عديدة إلى غطاء قانوني لانتهاكات سافرة، لا تمت بصلة إلى الأعراف الدبلوماسية، تشمل التجسس الإلكتروني والبشري، وتمويل جماعات الضغط، والتدخل في الشؤون الداخلية، والتنسيق مع أجهزة استخباراتية، بل والتورط في شبكات الفساد والجريمة المنظمة أحيانًا، تحت مظلة الحصانة وحماية “الصفة الدبلوماسية”.
وهنا تبرز المفارقة بين الشريعة الإسلامية والمنظور الوضعي الحديث؛ فالإسلام لم يعرف ما يُسمّى بـ”الحصانة المطلقة”، وإنما الأصل في نظامه السياسي والجنائي أن الناس جميعًا سواء أمام أحكام الله، لا يميَّز بينهم بحسب مناصبهم أو ألقابهم، قال النبي ﷺ: “إنما هلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها” (رواه البخاري ومسلم) فهذه هي القاعدة الذهبية في الحكم: لا أحد فوق الشريعة، ولا مهمة تُعفي صاحبها من تبعات الجريمة، ولا لباس رسمي يُسقط عنه حق المساءلة.
وإذا كان النبي ﷺ قد قال: “الرسل لا تُقتل” (رواه أبو داود)، فإنما هو من باب العرف الدولي الذي كان مقررًا حتى في الجاهلية، والذي أقرّه الإسلام كقاعدة لحماية مهمة السفراء من الاعتداء بسبب وظيفتهم، لا إعفاءً لهم من العقوبة إن ارتكبوا جريمة بحق الدولة المضيفة. فالامتناع عن قتل الرسل لا يعني إطلاقًا التغاضي عن جرائمهم إن هم خالفوا القانون أو انتهكوا القيم، وإنما هي حماية وظيفية لا شخصية، مقيدة بحدود الوظيفة وأدبها.
وقد نبه الفقهاء المسلمون إلى خطورة تحويل السفارة إلى وسيلة اختراق أو تحريض، فجعلوا من شروط اختيار المبعوث أن يكون صادق اللهجة، معروف الأمانة، متحلّيًا بخلق الإسلام، فلا يُستأمن لسان كذوب، ولا يُبعث مندوب لا يُوثق بعقله. يقول الماوردي في الأحكام السلطانية: “ولا ينبغي أن يُبعث من لا يُؤمن على لسانه، ولا يُوثق بعقله، لأن فساد المبعوث إليه قد يكون من فساد المبعوث منه”، في إشارة دقيقة إلى أن اختلال أخلاق الدبلوماسي ينعكس مباشرةً على صورة دولته، بل وعلى سلامة العلاقات الدولية برمتها.
إن الانزلاق في فهم الحصانة باعتبارها “امتيازًا فوق القانون” لا “ضمانة لممارسة الواجب”، يعكس خللًا بنيويًا في القيم المؤسِّسة للعمل الدبلوماسي المعاصر، ويفتح المجال أمام “فوضى أخلاقية مقننة”، تُمارَس تحت غطاء القانون الدولي، ويُغضّ الطرف عنها بحجة الأعراف، بينما هي – في حقيقتها – انتهاك صريح للسيادة، وإهانة مستترة لكرامة الشعوب.
وما لم يُعد النظر في فلسفة الحصانة من منظور أخلاقي وقيمي، فإن العمل الدبلوماسي سيظل ساحةً خصبةً للتوظيف السياسي المنحرف، والاستغلال الأمني السري، والتضليل باسم القانون.
ثالثًا: نقد أخلاقي داخلي لمسؤولية الدولة والدبلوماسي
من مقتضيات الوفاء للحق، ومن آداب النظر النقدي في الفكر السياسي، أن يُباشر النقد الذاتي الداخلي لا بوصفه ترفًا فكريًا، بل باعتباره واجبًا أخلاقيًا وسياسيًا، ينهض على مراجعة جذرية للأسس التي تُبنى عليها الممارسة الدبلوماسية في الدول الإسلامية. وليس المقصود بذلك المراجعة الشكلية أو الإدارية، وإنما الغوص في عمق المنظومة المفهومية والقيمية التي تحكم عملية انتقاء الدبلوماسيين وتأهيلهم، وطبيعة الوظيفة التي يُناط بها هذا المبعوث باسمه الرسمي.
فقد غلب – في كثير من البيئات السياسية الإسلامية – المنطق البراجماتي النفعي على الميزان القيمي في التعيين الدبلوماسي، حيث يُقدّم الولاء السياسي أو البراعة الخطابية على الاستقامة السلوكية والمرجعية الأخلاقية. ولئن كانت المهارة التفاوضية ضرورة لا تنكر، فإنها وحدها – مجردة من رصيد أخلاقي عميق – تتحوّل إلى أداة ضغط لا أداة بناء، وإلى وسيلة تضليل لا وسيلة تفاهم.
وهنا تبرز المفارقة الأخلاقية المروّعة: ما الفرق، من حيث المعيار الأخلاقي، بين من يرتدي بذلة رسمية ويتكلم باسم الدولة، بينما يمارس الكذب والمراوغة باسم “المصلحة الوطنية”، وبين من يغدر في سوق المعاملات أو يخون في مجلس القضاء؟ أليس الصدق والعدل أصلًا في السياسة كما هما أصلان في التجارة والقضاء؟ أم إننا نعترف ضمنا بانفصام أخلاقي مزمن بين ما نُعلنه من مبادئ، وما نمارسه من آليات؟
لقد كان التصور الإسلامي التقليدي للدبلوماسي، تصورًا رساليًا، ينظر إليه بوصفه شاهد صدق، وسفير قيم، وناطقًا بالعدل في حضرة الاختلاف، لا مجرّد ناقل رسائل أو وكيل نفوذ. ولم يكن من المقبول – في الفقه السياسي الكلاسيكي – أن يُبعث رجل عن الأمة، وهو عديم الورع أو ضعيف الضمير. قال الماوردي في الأحكام السلطانية: “لا يُبعث إلا من يُؤمن على لسانه ويُوثق بعقله”، إشارة إلى أن الأمانة العقلية واللسانية مقدّمة على المهارة الوظيفية.
وفي هذا السياق، يستنكر الغزالي – في نبرة تربوية صارمة – كل سلوك براجماتي مشوب بالخداع، قائلاً: “والمكر والخداع والكذب، وإن ساعد على الظفر، لكنه يزرع في النفس خبثًا وذلًا، ويُفسد العلاقة مع الحق، ويُسقط البركة من العمل”. وهو كلام نفيس يعكس فقهًا أخلاقيًا راقيًا يدرك أن النجاح المغشوش سمّ زعاف يُميت الروح، وإن زُيِّن في قاعات السياسة.
ولئن تذرّعت بعض الدول بـ”ضرورات المصلحة الوطنية” لتبرير سلوكيات دبلوماسية منحرفة، فإن الاعتبارات الأخلاقية لا تُبنى على دوافع الضرورة المجردة، بل على قيم راسخة تكون بمثابة المعيار الأخلاقي الحاكم للسلوك، وإلا تحوّلت الدبلوماسية من فضاء تفاهم إلى ساحة تضليل، ومن أداة تواصل إلى سلاح هيمنة ناعمة، وهو ما يؤدي – لا محالة – إلى تآكل الثقة بين الأمم، وانكشاف زيف الشعارات التي طالما تغنّت بـ”الشرعية الدولية” و”الأعراف الإنسانية”.
إن استعادة الهيبة الأخلاقية للممارسة الدبلوماسية في العالم الإسلامي لا تكون بزيادة البروتوكولات ولا بتكثير البعثات، بل بـإعادة تأسيس الفهم القيمي للوظيفة، وتكوين الدبلوماسي على معايير الصدق، والعدل، والأمانة، وربطه بتقاليد السياسة النبوية والخلافة الراشدة التي ما دخلها سفيرٌ إلا وكان “صوتًا للحق لا صدى للمصلحة”.
المبحث الثاني: المعايير الأخلاقية للعمل الدبلوماسي – نحو تأسيس أخلاقيات كونية للتمثيل السياسي
1. أخلاقيات الوظيفة لا امتيازات المنصب: انضباط سلوكي في عالم مضطرب
إن الدبلوماسية – في جوهرها العميق – ليست مجرّد حرفة تُتقن فيها أساليب التفاوض، أو وظيفة تُمارَس ضمن أطر البروتوكول والتمثيل الرسمي، بل هي أسمى من ذلك وأبعد غورًا، إذ تقوم على مهمّة أخلاقية ورسالية تعبّر عن الهوية الحضارية للدولة، ومنظومتها القيمية، وتصوّرها للعالم والإنسان والعلاقات بين الأمم.
فالدبلوماسي ليس سفيرًا للمصلحة فحسب، بل ناطقٌ باسم منظومةٍ كاملة من المبادئ والسلوكيات، يمشي بها في المجالس، ويترجمها بلسانه ومواقفه، ويُجسّدها في أمانته وسِمته. ومن ثمّ فإن الانضباط السلوكي والأخلاقي في شخصيته ليس ترفًا تجميليًا، ولا مجرّد إضافة سطحية، بل هو شرط وجودي لاستحقاقه هذه المرتبة التمثيلية. فالأخلاق، في ميدان العلاقات الدولية، ليست “زينةً خطابية”، بل أساس الثقة بين الدول، ومحور الشرعية في تمثيل الشعوب.
وفي الرؤية الإسلامية الأصيلة، لم يكن السفير يُنظر إليه كناقلٍ محايد فحسب، بل كـشاهد حضاريٍّ يُحمَل في شخصه صدق الرسالة التي خرج بها، ويتحمّل في عنقه أمانة البلاغ. فهو مسؤول عن المعنى الذي تمثّله أمّته في عيون الآخرين، قبل أن يكون مسؤولًا عن إيصال نصّ مكتوب أو موقف سياسي مبلَّغ.
وإن الصدق، في هذا المقام، لا يُعدّ مجرّد فضيلة فردية، بل هو ركيزة بنيوية في أداء المهمة الدبلوماسية. فالتزوير في البلاغ، والكذب في التوصيل، ليسا خطأين مهنيين فحسب، بل إفسادٌ للثقة، وتشويهٌ لصورة الدولة التي يُمثّلها صاحب الرسالة.
فمن كان لسانه خائنًا، ونيّته ملوّثة، وحركته مرهونة بالمكر، فقد خان الأمانة، وأسقط عن نفسه شرف السفارة، مهما زُخرف قوله أو لُفّ خطابه. وإن هذا التصوّر الراقي يُخرج العمل الدبلوماسي من دوائر المراوغة والمكر، التي غلبت على طبيعته في العصر الحديث، ويُعيد إليه صورته الأولى بوصفه موضع أمانة، لا موطئ نفوذ.
2. اللسان الناطق عن الأمة: بلاغ الرسالة لا بلاغ المصالح
إن جوهر العمل الدبلوماسي في الرؤية الإسلامية الأصيلة لا يُختزل في مجرد تمثيل مصالح الدولة أو ترتيب الأبعاد السياسية التقليدية، بل يرتقي إلى مستوى أسمى يتمثل في “بلاغ الرسالة” الحضارية التي تُمثلها الأمة، وترسلها إلى العالم. فالدبلوماسي في هذا التصور ليس مجرد وكيل نفوذ يسعى إلى تحقيق المكاسب المادية أو السياسية، بل هو سفير صدق يحمل في جوهره مهمة ترجمة أخلاق الأمة، ويُعبّر عن منظومة القيم الإنسانية التي تؤمن بها هذه الأمة في تعاطيها مع غيرها من الأمم.
هذه الرؤية الفلسفية تُحيل العمل الدبلوماسي إلى وسيلة تواصل من أجل تحقيق التفاهم بين الحضارات، لا مجرد لعبة مصالح بين القوى الكبرى. المُرسل هنا ليس منفصلًا عن الرسالة، بل هو شاهدٌ حيّ على قِيَم أمته، يحمل تلك القيم في سلوكه وفكره وأعماله. ما يحمله الدبلوماسي من أخلاق وشرف لا يتعلق فقط بـ الوظيفة الدبلوماسية كوظيفة سياسية، بل كـ مسؤولية أخلاقية تاريخية، تنبع من الوعي بأن التفاعل بين الأمم لا يتم بالحدود المادية فقط، بل بالأثر المعنوي الذي يتركه كل تصرف وكل موقف.
ولذلك، يصبح التقييم الدبلوماسي بعيدًا عن المقاييس الميكيافيلية أو السياسات البراغماتية التي تحصر النجاح في نتائج آنية. بدلاً من ذلك، النجاح الدبلوماسي يُقاس بمدى الأثر الأخلاقي الذي يُحدثه المبعوث في نفوس المُستقبلين، وبالتأثير القيمي الذي يزرعه في علاقات الأمة بالآخرين، وما يتركه من انطباع طويل الأمد يتجاوز المكاسب الفردية في العلاقات الدولية.
من هنا، يصبح التحرر من منطق المكيافيلية السياسية واجبًا أخلاقيًا ضروريًا، لا سيما في الدول التي تدعي تمثيل القيم الإنسانية أو تحمل رسالة ثقافية ذات خصوصية تاريخية. فالمصلحة دون ضوابط أخلاقية تُصبح مجرد وسيلة لتمييع المبادئ، والحنكة من دون التزام بالأخلاق تتحول إلى مكر يدمر علاقات الثقة، ويُخرب أركان الدبلوماسية التي يجب أن تبقى أساسًا للسلام والتفاهم بين الشعوب.
3. الحاجة إلى مرجعية كونية: ضبط الفوضى الأخلاقية باسم الدبلوماسية
إن تحول الحصانة الدبلوماسية في العقود الأخيرة إلى غطاء قانوني تُرتكب تحته أعمال تتناقض مع المبادئ الجوهرية لحقوق الإنسان وميثاق الأمم المتحدة، يعدّ من أخطر الظواهر التي تهدد السلم العالمي. فالدبلوماسية التي كانت يومًا وسيلة للحوار والتفاهم، أصبحت في بعض الحالات أداة تبرير لممارسات غير أخلاقية. ما كان يُفترض أن يكون حصنًا للأمان وعلامة للصدق في التفاوض، تحول إلى مخبأ قانوني لتمرير أنشطة من التجسس إلى تمويل الفتن، ومن التلاعب بالرأي العام إلى تهريب الأموال والسلاح. هذا التحوّل العميق في مفهوم الحصانة يعكس خللاً جذريًا في الأطر الأخلاقية التي كانت تحكم العلاقات بين الأمم.
وفي هذه الفوضى الأخلاقية الممنهجة، التي تُغلف بأستار السيادة والمصلحة الوطنية، تكمن مفارقة كبيرة بين المعلن والمُمارس في ساحة السياسة العالمية. فالدبلوماسية التي كانت تُعتبر عهدًا بين الأمم ورمزًا للتعاون والتفاهم، أصبحت في كثير من الحالات ساحة للمكر والتلاعب، ما ينذر بانهيار الثقة الدولية. حينما يتحول التمثيل السياسي إلى أداة للمناورة والهيمنة، لا تُصبح الساحة السياسية إلا ميدانًا من الغدر المقنّن، حيث يختفي التبادل الحضاري الفعلي لصالح المصالح الضيقة والتلاعب المخطط.
من هنا، تبرز الحاجة الملحة لإرساء مرجعية أخلاقية كونية، تقف فوق الانتماءات الحضارية والفكرية، وتؤسس لضوابط صارمة تحكم ممارسات البعثات الدبلوماسية، بحيث تُعيد الاعتبار إلى التمثيل الدبلوماسي بوصفه عهدًا بين الأمم، لا مجرد علاقة نفعية تتقاطع مع المصالح الفردية للدول. وتعد هذه المرجعية الأخلاقية ضرورة لمواجهة الفوضى القانونية والأخلاقية التي غزت الساحة الدولية، فهي ليست مجرد مطلب تنظيمي، بل إطار فلسفي عميق يضمن بقاء الدبلوماسية على مسارها الصحيح، ويحفظ توازن العلاقات الدولية ويؤسس لأرضية مشتركة تجمع بين القيم الإنسانية والحضارية.
وفي هذا الإطار، فإن الدول الإسلامية مطالبة بأن تكون في طليعة هذا الجهد الإصلاحي، ليس من منطلق التبعية للأنظمة الغربية، بل من منطلق قيمها الفقهية والإنسانية التي لا تقتصر على النظرة المصلحية الضيقة، بل تنفتح على مفاهيم الأخلاق العالمية التي تُمكنها من إعادة الهيبة لهذا الدور السياسي الرفيع. فإن من يملك قيمًا عليا وأخلاقيات مستقرة يمكنه أن يؤثر في السياق الدولي، ويُعيد للأمة مكانتها على الساحة العالمية، لا أن يكون مجرد تابع أو متماهٍ مع ممارسات عالمية ذات طابع مصلحي ضيق. القدرة على التأثير الأخلاقي هي التي تميز الأمة التي تحمل رسالة الإنسانية عن تلك التي تقتصر على النفع الفردي. إنها المسؤولية التاريخية للأمم العريقة، لا سيما الأمة الإسلامية، أن تتبنى هذا الواجب الأخلاقي الكوني، فتسهم في صياغة دبلوماسية منضبطة تأخذ بعين الاعتبار الرسالة الحضارية التي تحملها للأجيال المقبلة، ليظل العالم مكانًا للسلام والتفاهم، لا للفوضى والنزاع.
المبحث الثالث: الأخلاق والصفات التي يجب أن يتحلى بها الدبلوماسي
في عالم العلاقات الدولية المعاصر، لا تقتصر مهمة الدبلوماسي على تمثيل مصالح الدولة فحسب، بل تمتد لتكون رسالة حضارية تتجاوز إطار السياسة والاقتصاد. فالدبلوماسية ليست مجرد فنّ التفاوض أو إدارة البروتوكول، بل هي أداة تحمل في طياتها عناية بتمثيل القيم العليا لشعبٍ وأمة. ومن هنا، تبرز الصفات الشخصية باعتبارها عنصرًا أساسيًا في نجاح أي دبلوماسي، إذ تتطلب هذه المهمة توافر مجموعة من الصفات النفسية والعقلية والمهارية التي تضمن تحقيق الأهداف السياسية والتواصل الفعّال بين الأمم. سنعرض في هذا المبحث ثلاثة أبعاد رئيسية من هذه الصفات: الصفات النفسية التي تشكل الأساس الشخصي للدبلوماسي، الصفات العقلية التي تعزز من كفاءته الفكرية، والصفات المهارية الأدائية التي تمكنه من أداء دوره بكفاءة في ساحة التفاوض والعلاقات الدولية.
1. الصفات النفسية: عماد الشخصية الدبلوماسية
أولًا: الثبات النفسي والقدرة على إدارة الانفعالات
من أبرز الصفات التي يجب أن يتحلى بها الدبلوماسي هي الثبات النفسي والقدرة على إدارة الانفعالات. فالدبلوماسية تتطلب التعامل مع مواقف معقدة ومتنوعة، والتعامل مع ضغوطات خارجية وداخلية قد تؤثر على قرارات المبعوث، لذلك يجب أن يكون الدبلوماسي رجل مواجهة قادرًا على التصدي للتحديات بكل رباطة جأش، بعيدًا عن الانفعالات العاطفية أو اتخاذ قرارات سريعة قد تؤثر سلبًا على مصالح الدولة. إن الثبات الانفعالي يعد من الصفات الحاسمة في نجاح الدبلوماسي، حيث يمكنه من اتخاذ قراراته بحكمة ودون تأثيرات خارجية.
ويُعد ضبط النفس من الفضائل الأساسية التي يجب أن يتحلى بها المسلم في تعاملاته، سواء كانت شخصية أو مهنية. يقول الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ (آل عمران: 134)، وهي دعوة صريحة لضبط الغضب والابتعاد عن الانفعالات السلبية في جميع جوانب الحياة. فالدبلوماسي الذي يتحلى بهذه الصفات يستطيع تمثيل بلاده بأعلى درجات النضج والتفهم، مما يساهم في بناء علاقات قوية ومتوازنة بين الدول.
ثانيًا: المرونة النفسية والتكيف الثقافي
إضافة إلى الثبات الانفعالي، يجب أن يمتلك الدبلوماسي المرونة النفسية، وهي القدرة على التكيف مع بيئات متعددة والتعامل مع التحديات المختلفة التي قد تطرأ أثناء عمله. فالعلاقات الدولية تتميز بتنوع ثقافي وسياسي، ويتعين على الدبلوماسي أن يكون قادرًا على التفاعل مع هذا التنوع دون التفريط في المبادئ الأساسية التي يمثلها. هذه المرونة النفسية لا تعني التنازل عن القيم والمبادئ، بل تعني الحكمة في التكيف مع الظروف المعقدة وفهم الثقافات الأخرى.
وقد أكدت الشريعة الإسلامية على أهمية التفاهم مع الآخر واحترام اختلافاته، حيث قال الله تعالى في القرآن الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: 13). وهذا يشير إلى ضرورة فهم الآخر واحترامه، وهي قيمة أساسية في العمل الدبلوماسي.
ثالثًا: السمو الروحي والتروي في اتخاذ القرارات
أما عن السمو الروحي والتروي في اتخاذ القرارات، فإنها صفة تُعبر عن نبل الروح و الالتزام بالعدالة في السلوك الدبلوماسي. يتعين على الدبلوماسي أن يتحلى بالحكمة والتروي في اتخاذ المواقف السياسية، وأن يتجنب الاندفاع وراء القرارات التي قد تُفضي إلى نتائج غير محسوبة. إن اتخاذ القرار الحاسم في وقت الأزمات يتطلب التأمل العميق و الموازنة بين المصالح الشخصية والعامة، وهي خاصية تتوافق مع المبادئ الإسلامية التي تدعو إلى تحقيق العدل و الحق في التعامل مع الآخرين.
وقد ورد في القرآن الكريم قول الله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيُرَكِّمْ لَهُ أَمْرًا﴾ (الطلاق: 2)، حيث يشير إلى أن الفاعل السياسي يجب أن يتخذ قراراته مراعيًا التقوى، بعيدًا عن المصالح التي يتوهم فيها مخرجًا من الأزمات. هذا التوجيه الإلهي يشكل الأساس الذي يُبنى عليه القرار السياسي السليم في ساحة العلاقات الدولية، مما يعزز من قدرة الدولة على اتخاذ مواقف عادلة ومؤثرة.
وأخيرًا: من خلال ما تم بيانه، يتضح أن الثبات النفسي، المرونة النفسية، و السمو الروحي هي صفات أساسية لا غنى عنها في نجاح العمل الدبلوماسي. هذه الصفات تجعل من الدبلوماسي رمزًا للتفكير المتوازن والعدل في الساحة الدولية، مما يعزز من قدرة الدولة على بناء علاقات مستقرة ومبنية على الاحترام المتبادل.
2. الصفات العقلية: عدة الدبلوماسي وعتاده
أولًا: القدرة على التحليل العميق والفهم الاستراتيجي
من أهم الصفات العقلية التي يجب أن يتحلى بها الدبلوماسي هي القدرة على التحليل العميق و التفكير الاستراتيجي. فلا يكفي أن يكون الدبلوماسي ملمًّا بالتاريخ والسياسة فحسب، بل يجب أن يمتلك قدرة عقلية فائقة لفهم السياقات السياسية المعقدة وتحليل المواقف بعمق. في عالم العلاقات الدولية، حيث تتشابك المصالح وتتعدد الدوافع، لا يمكن الاعتماد فقط على المعرفة السطحية. بل يجب أن يتسم الدبلوماسي بقدرة على فحص جميع المتغيرات بعناية، والنظر إلى ما وراء الظاهر ليكتشف الأنماط الخفية التي قد تساهم في تغيير مسار الأحداث.
والقدرة على التحليل العميق تجعل الدبلوماسي قادرًا على استشراف المستقبل، وتوقع التداعيات المحتملة للقرارات التي يتخذها. ومن منظور شرعي، يُعد الفحص الدقيق والتروي في اتخاذ القرارات من أصول الإسلام في التعامل مع الأمور المعقدة. كما جاء في الأثر أن “المؤمن عالم بزمانه، مقبل على شأنه” فالمسلم لابد أن يجمع بين ثقافة العصر الذي يعيش فيه وبين معرفته بدينه؛ لأنه يريد أن يصلح هذا العصر بهذا الدين، وهذه إشارة إلى ضرورة العقلانية في التعامل مع القرارات الحاسمة، سواء كانت على مستوى الأفراد أو الأمم.
ثانيًا: التفكير النقدي والقدرة على التفرقة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة
من الصفات العقلية الأخرى التي تميز الدبلوماسي الناجح هي التفكير النقدي، وهو القدرة على تحليل المواقف بموضوعية وفحص الخيارات بشكل دقيق. لا يُقاس النجاح الدبلوماسي بعدد الاتفاقيات الموقعة، بل بمقدرة الدبلوماسي على تحويل التحديات إلى فرص. فالدبلوماسي الذي يمتلك تفكيرًا نقديًا قويًا قادر على اتخاذ قرارات تدفع بالبلاد إلى الأمام، مع تجنب الوقوع في أخطاء دبلوماسية قد تكون لها تبعات كارثية على المدى البعيد.
وفي الفقه الإسلامي، تتجلى هذه الصفة في القدرة على التفرقة بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، وهي من أبرز سمات الحكمة في السياسة. يقول الله تعالى في كتابه الكريم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَجَادَلْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ﴾ (النساء: 59). وهذه الآية تدل على أهمية التمييز بين ما يُحقق المصلحة العامة وما يُحقق المصلحة الخاصة، حيث يوجب الإسلام أن يتم اتخاذ القرارات بناءً على المصلحة العامة، وتجنب الاستفادة الشخصية على حساب الجماعة.
ثالثًا: التحليل المستقبلي واتخاذ القرارات المدروسة
إن القدرة على التفكير الاستراتيجي تتضمن أيضًا التحليل المستقبلي والتفكير في تداعيات القرارات على المدى البعيد. فالدبلوماسي لا يعمل في نطاق الوقت الراهن فقط، بل يمتلك رؤية ممتدة للمستقبل، ويحسب خطواته بناءً على التوقعات المستقبلية للأحداث والظروف. تلك الرؤية المستقبيلة لا تقتصر على التفكير في مصالح اليوم فقط، بل تشمل تحليلاً معمقًا لما ستؤدي إليه الخيارات التي يتخذها في المستقبل القريب أو البعيد.
ومراعاة المآلات في العمل الدبلوماسي أصلٌ راسخ في الهدي الشرعي، يقوم على النظر في نتائج الأقوال والأفعال قبل صدورها، وتقدير ما قد تفضي إليه من آثار سلبية أو إيجابية. وقد أرشدت الآية الكريمة إلى هذا المعنى بقول الله تعالى: ﴿ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم﴾ [الأنعام: 108]، فنهى الله سبحانه وتعالى عن سبّ الأصنام، مع كونها باطلة، لا لحرمة فيها، بل دفعًا لمفسدة أعظم قد تقع، وهي سبّ المشركين لله عز وجل.
وهذا يدل على فقه دقيق في تقدير المآلات، إذ أن الحق في ذاته لا يُقدم دائمًا إذا كان يجر باطلاً أعظم منه. وعلى هذا الأساس، ينبغي للدبلوماسي أن يتحلى بالحكمة، وألا يتسرع في إصدار مواقف أو تصريحات قد تُستغل لإثارة الفتن، أو تعقيد العلاقات الدولية، بل يسلك سبيل التوازن، ويتعامل مع المواقف بحسن تقدير، ووعي بالعواقب والنتائج.
وبالجملة تعتبر القدرة على التحليل العميق و التفكير النقدي و الرؤية المستقبلية من أهم الصفات العقلية التي يجب أن يتحلى بها الدبلوماسي. هذه الصفات تمكّن المبعوث الدبلوماسي من اتخاذ قرارات مدروسة تؤثر في مسار الأحداث بشكل إيجابي، وتُساهم في تعزيز مكانة بلاده في الساحة الدولية.
3. الصفات المهارية الأدائية: ميدان البراعة الدبلوماسية
على الصعيد المهاري الأدائي، فإن الدبلوماسي لا يُعدّ أهلًا لمهمته ما لم يُتقن جملة من المهارات العملية التي تُترجم صدقه وأمانته إلى أثر ملموس في ميدان العلاقات الدولية. فتمثيل الدولة في المحافل العالمية لا يقتصر على حمل رسائل أو إلقاء كلمات، بل هو فعل تواصلي مركّب يتطلب براعة التفاوض، ودقة الإقناع، وقدرة على صياغة التفاهمات بما يحفظ المصالح، ويُجنّب التصادمات، ويؤسس لجسور التواصل المستدام.
أولًا: مهارة التفاوض النزيه وتقدير المصالح
من أبرز ما ينبغي للدبلوماسي امتلاكه: الفطنة في التفاوض، وهي ليست براعة في المساومة فحسب، بل وعي بمواطن القوة، وفهم دقيق لتوازنات المصالح، ومهارة في تحويل الاختلاف إلى فرصة، والتنازع إلى تقارب. وهذا لا يكون إلا إذا كان الدبلوماسي قادرًا على تحديد المصالح المشتركة وصياغتها بأسلوب يُرضي الأطراف دون تفريط ولا شطط. وقد قرر الفقهاء قاعدة عظيمة في باب السياسة الشرعية: “التصرف على الرعية منوط بالمصلحة”، مما يدل على مركزية المصلحة الرشيدة في أي مسعى تفاوضي.
ثانيًا: مهارة الإقناع الراسخ بالحجة والبيان
الإقناع في العمل الدبلوماسي لا يتمّ بالصوت العالي أو بحشد العبارات الرنانة، بل بـالبرهان الهادئ، والحجة المتماسكة، والكلمة الموزونة. وقد اعتنى القرآن الكريم بهذا المعنى في أسلوبه الحواري، فكان الخطاب الإلهي يدعو إلى الجدال بالتي هي أحسن، مما يُرسي أساسًا شرعيًا لأسلوب الإقناع القائم على الاحترام، لا الاستعلاء؛ وعلى البيان، لا التضليل. والدبلوماسي المسلم مطالب بأن يُحسن البيان، ويُجيد التفصيل، ويصوغ المواقف بما يُعزز الحق، ويُكسب القلوب، ويُحسن صورة بلده وأمته.
ثالثًا: مهارة الإنصات وبناء الثقة
لا يكون الدبلوماسي ناجحًا في إقناعه ما لم يكن قادرًا على الإنصات الحقيقي، لا الاستماع المجرد. الإنصات فضيلة يتولد منها فهم الآخر بعمق، وتقدير دوافعه، مما يُتيح إمكان التلاقي والتفاهم. وهذه المهارة ترتبط بـبناء الثقة، وهي عمل تراكمي لا يُبنى بكلمة واحدة ولا بلقاء عابر، بل عبر سلسلة من المواقف المتزنة، والخطابات المعتدلة، والأفعال المنضبطة. ومن مقاصد الشريعة الكبرى: حفظ العلاقات بين الناس، وبناء مجتمع يقوم على التعاون لا التباغض، وهو ما يُمثل أحد المرتكزات الأخلاقية للعمل التفاوضي.
وعليه، فإن المهارات العملية للدبلوماسي ليست مجرّد تقنيات، بل هي سلوكيات أخلاقية راقية، تنبع من وعيه بدوره في حفظ السلم، وتحقيق المنافع، وصيانة صورة الأمة التي ينتمي إليها.
القدرة على الموازنة بين الأخلاق والمصلحة
إن التفاعل بين الصفات النفسية والعقلية والمهارية لدى الدبلوماسي يُعدّ حجر الزاوية في نجاحه، لأن التوازن بين هذه الجوانب يُشكّل شخصية قادرة على تمثيل بلاده بفاعلية ومسؤولية، دون التفريط في المبادئ الأخلاقية التي تُعدّ أساسًا في العمل السياسي الدولي. فالإنسان الدبلوماسي الذي يحترم نفسه ويراعي مصالح الآخرين في الوقت ذاته هو الذي يعكس قيمة الأمة في سياقاتها الدولية.
خاتمة وتوصيات:
إن العمل الدبلوماسي، في جوهره، ليس مجرد أداة لإدارة المصالح أو وسيلة لتثبيت النفوذ، بل هو تمثيل حضاري ورسالي يُفترض أن يقوم على القيم، ويستند إلى أخلاق العدل والإنصاف. وفي ظل ما يشهده العالم من تردٍّ أخلاقي في كثير من الممارسات الدبلوماسية المعاصرة، تبرز الحاجة الملحّة لإعادة ضبط البوصلة نحو مسارٍ قيمي يَصون العلاقات الدولية، ويمنحها مصداقية واستقرارًا.
وانطلاقًا من هذا المنظور، تُوصي هذه الورقة بما يلي:
1- وضع ميثاق شرف دولي ملزم للدبلوماسيين: يتضمن هذا الميثاق معايير أخلاقية واضحة، تُشكّل مرجعية تضبط الأداء الدبلوماسي، وتمنع الانحرافات السلوكية تحت ذريعة “المصلحة السياسية” أو “الحصانة الدبلوماسية”. وهذا الميثاق المقترح ستتم إرفاقه في نهاية الورقة كملحق توضيحي.
2- إطلاق برامج تدريب وتأهيل متخصصة: تدمج هذه البرامج البُعد الأخلاقي ضمن المناهج المقررة لتأهيل الدبلوماسيين، بحيث يتوازى التكوين القيمي مع التدريب الفني، وتتشكّل لدى الدبلوماسي بنية وازنة من الحكمة والمسؤولية.
3- اعتماد معايير انتقائية صارمة: ينبغي أن تُبنى اختيارات المترشحين للعمل الدبلوماسي على أساس السمعة والسيرة الأخلاقية، لا على الولاءات السياسية أو الحسابات الحزبية الضيقة، فالسفير صورة أمته، ولا يُعقل أن يُمثلها من لم يُعرف بالأمانة والصدق وحُسن السيرة.
4- تشجيع الدول والمؤسسات الدولية على تطوير نموذج دبلومسي أخلاقي: يندمج فيه القانون الدولي العام مع المرجعيات الدينية والإنسانية المشتركة، بحيث لا يكون العمل الدبلوماسي رهينًا للبراغماتية المجردة، بل مؤطَّرًا بضوابط تضمن التوازن بين المصالح والقيم.
وختامًا، فإن هذه الورقة ستلحق بها وثيقة مقترحة بعنوان “ميثاق الشرف الأخلاقي للعمل الدبلوماسي”، تتضمن بنودًا عملية لرسم معالم هذا المسار الجديد في العلاقات الدولية، الذي نأمل أن يُسهم في بناء عالم أكثر توازنًا وصدقًا واحترامًا للكرامة الإنسانية.
ملحق 1:
ميثاق الشرف الأخلاقي للعمل الدبلوماسي
وثيقة مبادئ وأخلاقيات السلوك الدبلوماسي
هذا الميثاق يُمثّل إطارًا أخلاقيًا موجّهًا للعاملين في السلك الدبلوماسي، يُرسّخ مبادئ النزاهة والاحترام والمسؤولية في التمثيل الدولي. وقد صيغ بلغة إنسانية جامعة، تستلهم القيم الكونية المشتركة وتستلهم روح العدالة والرحمة في المرجعية الإسلامية. يهدف الميثاق إلى تعزيز الثقة المتبادلة بين الدول، وصيانة كرامة العمل الدبلوماسي من الانزلاق في مسالك الخداع أو الهيمنة.
- الصدق في التمثيل والتواصل
يتعهّد الدبلوماسي بالتحلي بالصدق والدقة في نقل المواقف والرسائل، والامتناع عن التضليل أو ترويج المعلومات الكاذبة، التزامًا بمبدأ الأمانة في القول والعمل.
- احترام الكرامة الإنسانية والخصوصيات الثقافية
يُلزم الدبلوماسي نفسه باحترام الشعوب التي يتعامل معها، وتقدير تنوعها الديني والثقافي، والابتعاد عن أي سلوك أو خطاب يحمل طابعًا إقصائيًا أو استعلائيًا.
- الامتناع عن استغلال الحصانة لأغراض غير مشروعة
تُمارَس الحصانة الدبلوماسية في حدودها القانونية والأخلاقية، ولا تُتخذ ذريعة للانخراط في أنشطة تمس الأمن، أو تُخلّ بالاستقرار، أو تنتهك القوانين المحلية والدولية.
- الالتزام بالشفافية والعدالة في التفاوض
يتعامل الدبلوماسي بنزاهة في التفاوض، ويسعى إلى حلول عادلة تحقق التوازن بين المصالح، ويبتعد عن الغدر أو الالتفاف على التفاهمات.
- المسؤولية تجاه السلم والتفاهم الدولي
يتحمل الدبلوماسي مسؤولية المساهمة في تخفيف التوتر، وتعزيز الحوار، وبناء الجسور بين الأمم، بوصفه رسولًا للسلام لا عاملًا على تأجيج النزاعات.
- المحافظة على السرية دون خيانة الأمانة
يلتزم الدبلوماسي بحفظ أسرار الدولة التي يمثلها، دون أن تُستغل هذه السرية في التآمر أو الإضرار بالغير، امتثالًا لمبدأ الوفاء بالعهد.
- الاستقامة السلوكية في الحياة العامة والخاصة
يُتوقع من الدبلوماسي أن يكون مثالًا في السلوك القويم، في حياته العامة والخاصة، وأن يعكس في تصرفاته قيمة “القدوة الحسنة” التي تحفظ هيبة دولته.
- الانتماء إلى قيم العدالة والرحمة في كل المواقف
يسترشد الدبلوماسي في مواقفه بالقيم الإنسانية الكبرى، وفي مقدمتها العدل والرحمة، وهي قيم أكدت عليها الشرائع السماوية، وتُجمع عليها الفِطر السليمة.
إن هذا الميثاق لا يدّعي الإحاطة بجميع تحديات العمل الدبلوماسي، لكنه يضع لبنة أخلاقية تُعيد إلى الممارسة الدبلوماسية روحها القيمية ووجهها الإنساني. وهو دعوة مفتوحة للضمير الدولي كي يحتكم إلى المبادئ لا المصالح، ويستحضر في كل مهمة تمثيلية مسؤولية الكلمة والأمانة. ولعلّ الالتزام بهذه المعايير يكون خطوة صادقة نحو دبلوماسية أكثر توازنًا وعدلًا في عالم يئنّ تحت وطأة الاستقطاب والنزاعات.
محمد حقي علي
1447 – 2025