من عطاء النخوة إلى عبء الإلزام: حين يتحول المعروف إلى استحقاق

شدّتني مؤخرًا شهادات متكررة من نساء فاضلات، كنّ على مدى سنوات الثورة السورية سنداً وعوناً لأقاربهن في الداخل السوري، في زمنٍ اشتدت فيه الحاجة، وضاق فيه الرزق، وضاعت فيه السبل.

أخوات مهاجرات من تركيا وأوروبا والخليج… كنّ يقتطعن من دخل أسرهن لدعم أمٍّ فقدت مُعيلها، أو أخٍ اعتقل، أو أختٍ تُربي أطفالها وحدها. كان العطاء آنذاك صرخة ضمير، ووقفة نخوة، وجسر رحمة امتدّ من المغترب إلى أهل الشام.

لكن بعد التحرير الذي أكرمنا الله به ، وبدء تعافي السوق المحلي نسبيًا، فوجئ كثيرون بتحوّل تلك العلاقة المالية الأخوية من عطاء طوعي، إلى واجب شهري!
أصبح السؤال: “ليش وقفت المعونة؟!”
وليس: “كيف أبدأ أشتغل؟!”

 

 المشكلة: حين يُكافأ الكسل ويُعاقب المعروف

 

المتلقي لم يعد يرى الدعم كـ”جميلٍ وقت الحاجة”، بل كـ”استحقاقٍ دائم”.
والداعِم بدأ يشعر بأنه مستغَل، وكأن عليه التزاماتٍ شهرية بلا نقاش… رغم أن الحال تغيّر، والأبواب فُتحت، والسوق يئن من قلة اليد العاملة.

فتغيّر الشعور من: “جزاك الله خيرًا وقفت معنا”
إلى:
“أين المبلغ الشهري؟ نحن ننتظره!”

 

 تشخيص نفسي واجتماعي

 

1. سلوك الاتكالية:
الأزمة الطويلة خلقت عند بعض الناس تكيّفًا نفسيًا سلبيًا مع العون المستمر، فباتوا يشعرون أن الحياة لا تحتاج جهدًا بل فقط علاقات ومعارف.

 

2. إدمان المساعدة:
بعض الأشخاص يتبنّون هوية “المحتاج المزمن”، لأنها تتيح لهم مكانة خاصة واهتمامًا مستمرًا.

 

3. تأنيب الضمير عند المُعطي:
من أعطى في الماضي يجد صعوبة في التوقف الآن خوفًا من أن يُتّهم بالتقصير أو القطيعة، مما يجعله يشعر بأنه رهينة مشاعر الذنب.

 

4. تفكك روابط الأسرة:
العطاء المُلزِم حوّل العلاقات من رحم ومحبة إلى علاقات اقتصادية مشحونة، وتولّدت خصومات لا بسبب المال… بل بسبب توقّعات غير متفق عليها.

 

 تأصيل شرعي:

 

قال رسول الله ﷺ:: “اليد العليا خير من اليد السفلى، وابدأ بمن تعول.”
وهذا الحديث يرشد إلى:

– فضل العمل والكسب ورفض الاتكالية.

– تقديم واجب النفقة على الأهل قبل الآخرين.

– أن العطاء ليس فرضًا على الأفراد كالدولة.
وقال ﷺ أيضًا: “من لا يشكر الناس لا يشكر الله.”

فمن أُعطي ثم استكبر، وخان الشكر… فقد فوّت بركة العطاء.

 

من الحلول العملية المقترحة:

 

1. إعادة تأهيل فكري وإعلامي:
عبر حملات مجتمعية توضح أن (المساعدة كانت طارئة وليست دائمة)
وأن العمل ليس عيبًا،
وأن زمن الاتكالية ولى.

 

2. اتفاقيات واضحة داخل الأسرة:
من المناسب وضع ضوابط مكتوبة أو شفوية بوجود طرف ثالث حكيم حول الدعم المالي: المدة، الهدف، وأفق التوقف، حتى لا تُفهم المساعدة بشكل خاطئ.

 

3. إشراك المستفيد بالحل:
لا بأس أن يُطلب من المستفيد المساعدة في مشروع صغير، تجارة منزلية، أو تعلم مهنة، بدلًا من الاكتفاء بالاستلام.

 

4. إفساح المجال للتوقف الآمن:
من الطبيعي أن يتوقف المعطي عن العطاء لأسباب شخصية أو اقتصادية. يجب تطبيع هذا الحق… وتحرير العلاقة من “شعور الذنب”.

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

حوار سياسي تناول تحديات العمل الحزبي وآفاق التعددية السياسية في سوريا المستقبل….
ترفض سوريا التطبيع مع إسرائيل رفضاً قاطعاً يستند إلى تجربتها الثورية واحتلال الجولان، إضافة إلى الدعم الشعبي والديني الراسخ لقضية…
شكّل تفجير كنيسة مار إلياس إنذاراً أمنياً بالغ الخطورة، سلط الضوء على ثغرات الأداء الوقائي للمؤسسات الأمنية السورية، وكشف في…

القائمة