يمكن القول إن ظاهرة صَهْيَنَة العرب تمثل واحدة من أخطر أنماط إعادة هندسة الوعي في المجال العربي الحديث، وهي تكاد تبلغ ذروتها اليوم في بعض الشرائح السورية، سواء داخل سوريا أو في أوساط المهاجرين واللاجئين، لم يعد التطبيع مع الكيان الصهيوني يُعرض بوصفه انحرافاً أو خيانة، بل كـ«خيار استراتيجي» لتحقيق الأمن والرفاه الاقتصادي، بما يشبه صورة عبودية معاصرة مستترة تحت عنوان «السلام»، ومشروطة تماماً بإملاءات الاحتلال ورعاته الدوليين.
إن المتتبع لهذا المسار يلحظ تحوله من مجرد سردية نخبوية إلى ظاهرة ثقافية يتم تسويقها بين عامة الناس، مستندة إلى حالة الإحباط المزمن من النظم العربية المهترئة، ومتلازمة «دبي نموذجاً» التي تَعِدُ السوريين بسلام سياحي وتجاري يضاهي ما تحقق في الخليج، دون الاكتراث لثمن ذلك من سيادة الأمة وقيمها.
الخصائص والسمات:
أولاً: إعادة تعريف التطبيع ليصبح «طريق الخلاص»، حيث يُعاد تقديم الكيان الصهيوني باعتباره لاعباً اقتصادياً مشروعاً يمكن أن ينتشل سوريا من أزماتها، هذه المزايدة على معاناة الناس تتجاهل جوهر الاحتلال وأبعاده العقيدية والاستراتيجية، وقد قال تعالى:
( ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى ) [البقرة: 120]
ليذكّرنا أن هذه الأوهام لا تثمر إلا التنازل الكامل.
ثانياً: تفكيك صورة العدو التاريخي عبر نزع بُعده الديني والأخلاقي، وتحويله إلى مجرد طرف اقتصادي، ما يفتح الباب لاستراتيجية «الاختراق الناعم» التي يتحدث عنها منظرو العلاقات الدولية.
ثالثاً: وصم الأصوات المتمسكة بفلسطين والقدس بأنها «رجعية» تعيق الحداثة، على الرغم من أن الحداثة هنا مجرد ستار للتبعية وتطويع الإرادة العربية.
الأهداف الاستراتيجية:
أولاً: تفريغ الوعي الجمعي من مركزية القضية الفلسطينية، لتتحول من رمز تحرري جامع إلى ذكرى فولكلورية، لا توجب التزاماً سياسياً ولا تضحيات.
ثانياً: إقحام سوريا — بل والمنطقة بأكملها — فيما يسميه بعض الباحثين النظام الوظيفي الذي يحرس أمن الكيان الصهيوني ويؤمن له مظلة استقرار إقليمي، مستفيداً من تفكيك أي مشروع مقاوم. قال تعالى:
( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء ) [الممتحنة: 1]
وهو تحذير واضح من بناء علاقات مودة أو تحالف استراتيجي مع المحتل.
ثالثاً: إعادة تعريف معايير السيادة بحيث تصبح «النجاة الفردية» والرفاه الاستهلاكي بديلاً عن فكرة الأمة والكرامة الجماعية، في استنساخ حديث لنموذج العبد الراضي الذي تكلم عنه فلاسفة الأخلاق السياسية.
النتائج المحتملة:
أولاً: تمييع الروابط القيمية والسياسية التي كانت تشدّ المجتمع العربي والإسلامي حول قضية فلسطين، فتتحول المقاومة إلى خطاب شاذ أو موضع اتهام، ويقال لمن يرفض الاحتلال إنه يعيش خارج العصر.
ثانياً: إنتاج جيل لا يرى في الكيان الصهيوني إلا شريكاً تجارياً مشروعاً، ما يعزز «شرعية الاحتلال» رويداً رويداً على مستوى الوعي العام.
ثالثاً: طمس روح التضامن الإسلامي، حتى تغدو نصرة المستضعفين أو الذود عن المقدسات فعلاً ترفياً لا يليق بعقل «براغماتي» منغمس في السوق. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
(المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه) [صحيح البخاري]
وترك الفلسطينيين تحت نير الاحتلال بلا نصرة ولا دفاع هو من أخطر صور الظلم والإسلام.
سوريا والكيان الصهيوني: وقائع العلاقة القلقة
مع سقوط نظام الأسد وصعود حكومة أحمد الشرع، تكثفت التحركات الدولية والإقليمية لإدخال سوريا في مسار التطبيع مع الكيان الصهيوني، خصوصاً بعد لقاء الشرع مع الرئيس الأمريكي ترامب في مايو/أيار 2025، حيث أعلن ترامب رفع العقوبات عن دمشق وحثها صراحة على الالتحاق بركب «السلام» مع إسرائيل، وفي المقابل تحدثت تقارير موثوقة عن لقاءات مباشرة وغير مباشرة جمعت مسؤولين سوريين بمسؤولين إسرائيليين، تزامنت مع استمرار الغارات الإسرائيلية على مواقع داخل سوريا، في محاولة لخفض التوتر وضبط قواعد الاشتباك على حدود الجولان.
أظهرت استطلاعات الرأي، التي أجراها المركز السوري لدراسات الرأي العام (مدى) في نهاية أبريل/نيسان، أن 39% من السوريين يؤيدون فكرة السلام مع إسرائيل، مقابل 46% يرفضونها، و13% غير مهتمين. واعتبر القائمون على الاستطلاع أن هذه النسبة تمثل “مستوى تأييد مرتفعاً”، مقارنة بالخلفية التقليدية الرافضة للتطبيع، غير أن النتائج أظهرت أيضًا أن معظم هؤلاء المؤيدين ينتمون إلى مناطق الساحل وجنوب سوريا، التي تسكنها أقليات دينية وقومية، ما يعكس طابعاً جغرافياً وديموغرافياً محدداً لهذا التوجه.
في المقابل، عبّر الرئيس أحمد الشرع خلال لقائه مع الرئيس الفرنسي في قصر الإليزيه عن انفتاحه على وساطات غير مباشرة للتهدئة مع تل أبيب، تجنّباً لتصعيد محتمل على جبهة الجولان مستقبلاً.
وفي تحليل المشهد، يرى الصحفي الإسرائيلي إيهود ياري أن «تفاهمات» أمنية بين دمشق وتل أبيب باتت ممكنة ولو لم تصل إلى تطبيع شامل، بينما يذهب المحلل الأمريكي ألكساندر لانغلوي إلى أن الشرع يستخدم ورقة الانفتاح على إسرائيل تكتيكاً لتحصيل اعتراف غربي أوسع ودعم اقتصادي، دون أن يجرؤ حتى اللحظة على اتفاق نهائي يطيح ما تبقى من الموقف السوري الرسمي تجاه فلسطين والجولان.
واجب المرحلة:
إن واجب السوريين اليوم هو تفكيك هذا الخطاب التطبيعي، وكشف بنيته كأداة استعمارية ناعمة، واستعادة سردية فلسطين باعتبارها قضية تحررية مركزية لا مساومة عليها، وإحياء قيم الولاء للأمة والبراء من المعتدين، فالقرآن بيّن بوضوح: فقد قال عليه الصلاة والسلام:
«من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه وذلك أضعف الإيمان» [صحيح مسلم].
فما يجري اليوم من ترويج للتطبيع هو منكر وجريمة وخيانة للمقدسات في أعلى درجاته، ولا يصح التساهل معه ولا السكوت عنه.
التوصيات:
1- تعزيز التوعية الإعلامية والثقافية بخطر الاحتلال المجرم وبأهمية فلسطين والقدس وغزة
2- إحياء الخطاب القيمي والأخلاقي لتنشئة جيل واع غيور على المقدسات والأرض
3- رفض الضغوط الخارجية الداعية لفرض التطبيع
4- مساندة الشعب الفلسطيني سياسياً وإنسانياً