التهديدات والتحديات الأمنية بعد تفجير كنيسة مار إلياس: قراءة في أداء المؤسسات الأمنية

تُعدّ عملية تفجير كنيسة “مار إلياس” معضلة أمنية تثير العديد من التساؤلات حول طبيعة التهديدات التي تواجه المؤسسات الأمنية، والتحديات التي تعيق عملها. فهذه المعضلة الأمنية تشكل ثنائية أمام المدرك الأمني، عبر طبيعة التهديدات للقطاعات الأمنية، والتحديات التي أدت لقصور المؤسسات الأمنية في الردع الوقائي للتهديد الذي يريد الإضرار بالأجهزة الأمنية. ومن المتوقع أن تكون لعملية تفجير كنسية “مار إلياس” مألات أمنية وسياسية واجتماعية (الدالاتي،2025)

 

بين مفهوم التهديد والتحدي والقطاعات المستهدفة:

 

الأمن والتهديد أمران مترابطان، من حيث عملية التفاعل بينهما في سياق التأثر والتأثير، إذ لا يمكن فهم الأمن إلا من خلال وجود التهديد. وقد سعى منظّرو “الدراسات الأمنية التقليدية” إلى تعريف التهديد على أنه: “التعبير بشكل ما، عن النية في الإيذاء أو التدمير أو المعاقبة، أو أنه مؤشر على خطر وشيك، أو احتمال وقوع شيء سيء للغاية، له عواقب وخيمة أو مخيبة للآمال، ويمكن القول إن التهديد هو نية معلنة لإحداث إصابات أو أضرار أو أعمال عدائية أخرى ضد شخص ما”، ويرى “باري بوزان” -أحد أبرز الباحثين والمنظرين الأمريكيين في حقل الدراسات الأمنية- أن التهديد الأمني غايته النهائية استهداف مؤسسات الدولة.

 

ولوضع حدٍّ يميز التحديات عن التهديدات، عُرِّفت التحديات بأنها: “المشكلات والصعوبات والمخاطر التي تواجه الدولة، وتتحداها، وتعوق تقدمها، وتشكل عثرة أمام تحقيق أمنها الشامل، واستقرارها، ومصالحها الحيوية، الذاتية والمشتركة”، وتكون التحديات في سياق “الأمن الناعم”، بينما لا تكون التهديدات إلا في سياق “الأمن الخشن”.

 

أما طبيعة الاستهداف في عملية تفجير كنيسة مار إلياس، تحمل طابعًا ثنائيًا من حيث مقاصد العملية، إذ تستهدف قطاعين أمنيين بهدف الإضرار بمؤسسات الدولة السورية. وهذان القطاعان، بحسب تصنيف “باري بوزان” الخماسي للقطاعات الأمنية، هما: القطاع السياسي في السياقين الداخلي والخارجي، إذ يتمثل داخليًا بمحاولة تأليب النشاطات والحركات المناهضة لسلطة الدولة، وخارجيًا بتأثير الفواعل الدوليين والمنظومة الدولية على استقرار الدولة. أما القطاع الثاني يتعلق بتهديد التكامل الثقافي والاندماج الاجتماعي لمكونات المجتمع. (أبو دوح، 2022)

 

فالعملية التي استهدفت “مار إلياس” في سياقها التكتيكي، حاولت تأليب القطاعات المجتمعية من المكونات العرقية والدينية، التي تنتابها هواجس ومخاوف من بنية السلطة الأيديولوجية، من خلال معززات تلك الهواجس الرئيسية وأهمها “الدعاية الإعلامية” التي تحاول تكريس سردية تخوف المكونات السورية من السلطة السورية، من خلال شحن الوعي العام لهذه المكونات بمخاوف وتوجس من مألات مفترضة لسياسات الحكومة الحالية، دون التعاطي المنطقي وإخضاع سياسة وخطاب السلطة للتحليل والاختبار على أرض الواقع، فهي تستهدف في مستواها التكتيكي من خلال إرسال إشارات إنذار وزيادة المخاوف لدى المكونات الأقل عدداً عرقياً أو دينياً في سورية، في محاولة لفك التعاقد الهش بين السلطة والمكونات التي أخذت دور المراقب الحذر من التغييرات الجوهرية ما بعد 8 ديسمبر.

 

أما على مستواها الإستراتيجي، فهي محاولة لتقديم السلطة على أنها غير قادرة على حماية المكونات وضبط الوضع أمنياً، وهذا موجه للفواعل الدوليين الذين احتووا السلطة الجديدة، بشرط تقديم الضمانات الأمنية داخلياً في سياق ضبط الواقع الأمني وحماية المكونات ومكافحة الإرهاب، وخارجياً في سياق التعاون السياسي والأمني (باراك العربية، 2025)، فهي في محاولة المحصلة لإفشال الفترة التي يمكن أن نسميها فترة الاختبار الدولي للسلطة السورية.

 

 

تحليل أداء المؤسسات الأمنية:

 

يمكن قياس جودة أداء مؤسسات أو منظمات الأمن من خلال نمطين مترابطين إلى حد ما.

 

النمط الأول: هو النمط الوقائي، حيث تكون فيه الأجهزة الأمنية فاعلة ومتقدمة في عمليات ردع وإبطال الجرائم مسبقًا، من خلال الرصد والمتابعة والمباغتة.

 

أما النمط الثاني: فهو الاحتواء والرد السريع، من خلال احتواء التهديد ومعالجته بأسرع وأسلم الطرق المتاحة، وهذا يعتمد على سرعة الجاهزية الأمنية، وقدرة المؤسسة على استيعاب الصدمة والقدرة على الرد.

ومن خلال تتبع أداء الأجهزة الأمنية مع الأخذ بعين الاعتبار، عمر وخبرات هذه الأجهزة الحديثة، يجد المتتبع لسيرورة وحيثيات التعاطي الأمني، خصوصاً بعد عملية “مار إلياس” أن طبيعة النمط المتبع بالنظر للإمكانيات والموارد المتاحة، هو نمط “الاحتواء”، وإن كان هناك قصورا في الكفاءة الأمنية في النمط “الوقائي” إلا أن الاستجابة الأمنية بعد العملية تعتبر جيدة من منظور مقاييس الجودة التي تتناسب مع النمط المتبع، وهذه المقاييس هي ” الاحتواء، السرعة، الدقة”.

 

فالفترة الزمنية التي تم خلالها تحديد الجهة المنفذة للتفجير، ثم تتبع مركزية الخلية واعتقال أعضائها، خلال 24 ساعة (الأناضول،2025)، يعد إنجازاً أمنياً متناسباً مع الإمكانيات والموارد المتاحة لهذه الأجهزة المشاركة، سواء قوى “الإدارة العامة للاستخبارات السورية” أو “الأمن الداخلي” التابع لوزارة الداخلية. غير أن طبيعة التهديدات المحيطة بالدولة السورية لا يمكن معالجتها بنمط تعاطي “احتوائي” فقط، فهذا النمط استيعابي يتناسب مع عمليات بذاتها، ويجب التكيف مع التهديدات بالنظر للسيناريوهات المحتملة بعد عملية “مار إلياس”.

 

 

السيناريوهات المحتملة والتوصيات:

 

1- نعتقد أن هذه العملية ستتبعها علميات عديدة مشابهة تستهدف دور العبادة والكنائس، خصوصًا في المناطق ذات الكثافة السكانية. كما أنه من الممكن استهداف المساجد لزيادة الاحتقان الشعبي بين المكونات المختلفة. لذلك، نوصي باتخاذ المزيد من الإجراءات الأمنية التي قد تقلل من احتمالية نجاح أي علمية مشابهة، وذلك عبر فرض الأطواق الأمنية وحماية دور العبادة، وعلى وجه الخصوص تلك التي تتمتع بكثافة سكانية عالية، بالإضافة إلى تتبع خلايا التنظيم والمنظمات المستفيدة من مثل هذه العمليات.

 

 

2- يمكن أن ينتقل عمل “تنظيم داعش” من العمل ضمن خلايا هرمية، واستراتيجية “الذئاب المنفردة” بحسب أدبيات التنظيم، إلى طور أخر من العمل العسكري الموسع، يتمثل في السيطرة على مراكز حضرية وانزياح مسرح عملياته من البادية إلى عمق المدن والمراكز الحضرية. لذا، نرى أنه من الضروري زيادة الكتل العسكرية والأمنية التابعة للحكومة السورية في المراكز الحضرية التي تنشط بها خلايا التنظيم، وتكثيف العمل ضد خلاياها وأفرادها، ورفع مستوى التنسيق مع قوى التحالف الدولي ضمن برنامج مكافحة التنظيم. كما يجب العمل على رفع الوعي الفكري لدى الشرائح الاجتماعية التي يحتمل أن تتأثر لخطاب ودعاية التنظيم، من خلال إقامة الفعاليات الفكرية والدينية ورسم استراتيجية لخطاب رديف مناهض لخطاب التنظيم.

 

 

ختاماً، يجب رفد الأجهزة الأمنية بإمكانيات وبموارد أكبر، على مستوى الموارد البشرية النوعية والكمية، ورصد موارد اقتصادية ولوجستية أكبر، ورفع السوية العملية عبر الشروع في تأهيل الكوادر الأمنية ضمن برامج عملية وعملية، وذلك في إطار البرامج والملفات الأمنية التي تعنى بها هذه الأجهزة.

 

 

المراجع:

 

  1. الدالاتي يمان، تفجير كنيسة مار إلياس في دمشق: القصة الكاملة وما نعرفه حتى الآن، نون بوست، https://www.noonpost.com/318401/ ،23/6/2025.
  2. أبو الدوح خالد كاظم، التهديدات الأمنية، مركز البحوث الأمنية جامعة نايف للعلوم الأمنية، أوراق السياسيات الأمنية.
  3. باراك توم، مقابلة خاصة مع المبعوث الأمريكي إلى سوريا توم باراك، https://youtu.be/bxDj-OdT-P4?si=KNd9mJ4hyV2sOHJ2 ، 26/6/2025.
  4. الأناضول، دمشق تعلن القبض على “خلية” تفجير كنيسة مار إلياس، https://n9.cl/6e56u ، 24/6/2025.

 

 

شارك المقال :

فيسبوك
واتسأب
تلجرام
اكس (تويتر)

مقالات قد تعجبك :

حوار تحليلي عميق مع البرفسور حسام الدين أناتش حول مواقف تركيا من تطورات سوريا وغزة، واستراتيجياتها في إدارة الصراعات الإقليمية…
عقد مركز سوريا للدراسات والتنمية ندوة حوارية بعنوان “الموقف الأمريكي تجاه سوريا في ظل خطاب الرئيس السوري في الأمم المتحدة”…
التعصب القومي جدار عازل يُطفئ نور الأمة ويبعثر قوتها، أما العقيدة الجامعة فهي الجسر الذي يوحّد تنوعها ويُشعل حضارتها من…

القائمة